الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام
يقول شهيد الإسلام (سيد قطب) عليه رحمه الله في تفسيره (ظلال القرآن) ما نصُّه:إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار، فعمليات (الاستثارة) المستمرة تنتهي إلى سُعَار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون.وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء (مجتمع نظيف) هي الحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليماً.دون استثارة مصطنعة، وتصريفُه في موضعه المأمون النظيف.ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين، والاطلاع على مواطن الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا (تنفيس) وترويح ووقاية من الكبت ومن العقد النفسية... شاع هذا على أثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان والرجوع إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين- وبخاصة نظرية فرويد- ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية.رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتاً من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية، والدينية، والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.نعم شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها إنما انتهى إلى سعار مجنون، لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع.وشاهدت من الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان. شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة (للاختلاط) الذي لا يقيده قيد ولا يقف عنده حد.إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته فالنظرة تثير، والحركة تثير، والضحكة تثير، والدعابة تثير، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات. وذلك هو المنهج الذي يختاره الإسلام مع تهذيب الطبع وتشغيل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة غير تلبية دافع اللحم والدم.
ولو أن هؤلاء (المجدِّدين) اقتصرت دعوتهم على النساء العاريات، المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى، اللواتي خالفن تعاليم الإسلام بخلعهن للحجاب فدعوهن إلى التستر والاحتشام وارتداء الجلباب الذي أمرهن به الله عز وجل وقالوا لهن: إن أمر (الوجه والكفين) فيهما سعة وإن بإمكانهن أن يسترن أجسادهن ويكشفن وجوههن لهان الخطب، وسهل الأمر، وكانت دعوتهم مقبولة لأنها تدرج بالتشريع بطريق الحكمة، ولكنهم يدعون المرأة المؤمنة المحتشمة الساترة لما أمر الله عز وجل ستره، فيزينون لها أن تكشف عن وجهها وتخرج عن حيائها ووقارها فتطرح النقاب تطبيقاً للكتاب والسنة بحجة أن الوجه ليس من العورة؟وإنه لتحضرني قصة تلك المرأة المؤمنة الطاهرة التي استشهد ولدها في إحدى الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة فقيل لها: تبحثين عنه وأنت متنقبة؟ فأجابت بقولها: لأن أرزأ ولدي فلن أرزأ حيائي؟.. عجباً والله لهؤلاء وأمثالهم أن يدعوا (المرأة المسلمة) إلى كشف الوجه باسم الدين، وأن يزينوا لها طرح النقاب في مثل هذا العصر الذي فسد رجاله، وفسق شبابه، إلا من رحم الله وكثر فيه الفسق والفجور والمجون.ونحن نقول لهؤلاء (المجدِّدين) من أئمة العصر المجتهدين: رويدكم فقد أخطأتم الجادة وتنكبتم الفهم السليم الصحيح للإسلام وأحكامه التشريعية، ونخاطبهم بمنطق العقل والشرع، وكفى بهما حجة وبرهاناً.لقط شرط الفقهاء- الذين قالوا بأن الوجه ليس بعورة- أمن الفتنة فقالوا: الوجه ليس بعورة، ولكن يحرم كشفه خشية الفتنة، فهل الفتنة مأمونة في مثل هذا الزمان؟والإسلام قد حرم على المرأة أن تكشف شيئاً من عورتها أمام الأجانب خشية الفتنة، فهل يعقل أن يأمرها الإسلام أن تستر شعرها وقدميها وأن يسمح لها أن تكشف وجهها ويديها؟ وأيهما تكون فيه الفتنة أكبر الوجه أم القدم؟ يا هؤلاء كونوا عقلاء ولا تلبسوا على الخلخال وتتحرك قلوب الرجال أو يبدو شيء من زينتها، فهل يسمح لها أن تشكف عن الوجه الذي هو أصل الجمال ومنبع الفتنة ومكمن الخطر؟.كلمة العلامة المودودي:وأختم هذه الكلمة بما ذكره العلامة المودودي في تفسيره لسورة النور حيث قال أمد الله في عمره:وهذه الجملة في الآية الكريمة: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن، أو ما كان ظاهراً بنفسه لا يمكن إخفاؤه كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن (يعني الملاءة) لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى وهذا هو المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود والحسن البصري.أما ما يقوله غيرهم إن معنى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يظهره الإنسان على العادة الجارية. ثم هم يدخلون فيه (وجه المرأة وكفيها) بكل ما عليها من الزينة، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمساحيق والصبغ، ويديها بالحناء والخاتم والأسورة، ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها... أما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما يُظْهره الإنسان فإن الفرق بين أن يَظْهر الشيء بنفسه، أو أن يُظهره الإنسان بقصده واضح لا يكاد يخفى على أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في حد هذه الرخصة إلى حد إظهارها (عمداً) مخالف للقرآن ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كن يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملاً للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءاً من لباس النساء إلا في الإحرام.وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفها للأجانب، يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة مع أن الفرق كبير جداً بين (الحجاب) و(ستر العورة) فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة. انتهى.
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الأيمة وهي طول الغُزْبة، وأنشد ابن بري: وآمت المرأة: إذا مات عنها زوجها. ومنه قول علي (مات قيّمها وطال تأيّمها) وفي التنزيل: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} أدخل فيه الذكر والأنثى والبكر والثيب.{عِبَادِكُمْ}: بمعنى العبيد وقرأ مجاهد (من عبيدكم) وأكثر استعماله في الأرقاء والمماليك وإذا أضيف إلى الله فيراد منه الخلائق قال تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية..{واسع}: ذو غنى وسعة يبسط الرزق لمن يشاء من عباده وهوالغني الحميد.{عَلِيمٌ}: عالم بحاجات الناس ومصالحهم فيجري عليهم من الرزق ما قسم لهم.{وَلْيَسْتَعْفِفِ}: أمر من العفة واستعفف وزنه: استفعل ومعناه: طلب أن يكون عفيفاً، قال في (لسان العرب) العفة: الكف عما لا يحل ويجمل، يقال عفّ عن المحارم يعِفُّ عفة وعفافاً وامرأة عفيفة أي عفيفة الفرج، وفي الحديث: «من يستعفف يعفه الله» وقيل الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء.ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى».{الكتاب}: قال الزمخشري: الكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، وهي أن يقول الرجل لمملوكه: (كاتبتك على ألف درهم فإن أداها عتق)، والمكاتبة (مفاعلة) لا تكون إلا بين اثنين لأنها معاقدة بين (السيد وعبده) فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع، والمكاتبة هيَ: العقد الذي يجري بين (السيد وعبده) على أن يدفع له شيئاً من المال مقابل عتقه وسمي مكاتبة لأن العادة جارية بكتابته لأن المال فيه مؤجل، وهي لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية نبه عليه العلاّمة ابن حجر.{خَيْراً}: لفظ الخير يطلق على المال {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] أي لحب المال، ويطلق على فعل الصالحات وقد فسره بعضهم بالمال وهو ضعيف، والصحيحُ أن المراد به: الصلاح والأمانة والوفاء، والمعنى: إن علمتم فيهم القدرة على الكسب والوفاء والأمانة فكاتبوهم على تحرير أنفسهم.قال الطحاوي: وقول من قال إن المراد به (المال) لا يصح، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟ وانكر بعضهم ذلك من حيث اللغة فقال: لا يقال علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال.والأصح أن المراد بالخير الأمانة والقدرة على الكسب وبه فسره الشافعي كما مر معنا.{فتياتكم}: المراد به (المملوكات من الإماء) وهو جمع فتاة، قال الألوسي وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن (العبد والأمة).وفي الحديث: «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي» وكأنه صلى الله عليه وسلم كره العبودية لغير الله عز وجل وعلّم السادة أن يتلطفوا عند مخاطبة العبيد.{البغآء}: مصدر بغت المرأة تَبْغي بغاءً إذا زنت وفجرت، وهو مختص بزنى النساء فلا يقال للرجل إذا زنى: إنه بغى قاله (الأزهري).والجمع بغايا، والمراد بالآية إكراه الإماء على الزنى، وفي الحديث: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي».{تَحَصُّناً}: أي تعففاً ومنه المُحْصنة بمعنى العفيفة وقد تقدم.{عَرَضَ الحياوة}: أي متاع الحياة الدنيا وسمي عرضاً لأنه يعرض للإنسان ثم يزول، فهو متاع سريع الزوال وشيك الاضمحلال {وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20].{آيات مبينات}: أي آيات واضحات، وحكم باهرات، ودلائل ظاهرة، تدل على حكمة الله العلي الكبير، قال الزمخشري: هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت معاني الأحكام والحدود.
|