الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} فلما ثبتت خصوصيته سبحانه وتعالى بصفة القدرة على الوجه الأعم ذكر بعض ما تحت ذلك مما لم يدخل شيء منه تحت قدرة غيره فقال:- وقال الحرالي: ولما كانت هذه الآية متضمنة تقلبات نفسانية في العالم القائم الآدمي اتصل بها ذكر تقلبات في العالم الدائر ليؤخذ لكل منها اعتبار من الآخر. ولما ظهر في هذه الآية افتراق النزع والإيتاء والإعزاز والإذلال أبدى في الآية التالية توالج بعضها في بعض ليؤذن بولوج العز في الذل والذل في العز، والإيتاء في النزع والنزع في الإيتاء، وتوالج المفترقات والمتقابلات بعضها في بعض، ولما كانت هذه السورة متضمنة لبيان الإحكام والتشابه في منزل الكتاب بحكم الفرقان أظهر تعالى في آياتها ما أحكم وبين في خلقه وأمره وما التبس وأولج في خلقه وأمره، فكان من محكم آية في الكائن القائم الآدمي ما تضمنه إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وكان من الاشتباه إيلاج العز في الذل وإيلاج الذل في العز، فلما صرح بالإحكام ببيان الطرفين في الكائن القائم الآدمي، وضمن الخطاب اشتباهه في ذكر العز والذل صرح به في آية الكون الدائر، فذكر آية الآفاق وهو الليل والنهار بما يعاين فيها من التوالج حيث ظهر ذلك فيها وخفي في توالج أحوال الكائن القائم، لأن الإحكام والاشتباه متراد بين الآيتين: آية الكائن القائم الآدمي وآية الكون الدائر العرشي، فما وقع اشتباهه في أحدهما ظهر إحكامه في الآخر فقال سبحانه وتعالى: {تولج} من الولوج، وهو الدخول في الشيء الساتر لجملة الداخل {الَّيل في النهار} فيه تفصيل من مضاء قدرته، فهو سبحانه وتعالى يجعل كل واحد من المتقابلين بطانة للآخر والجاً فيه على وجه لا يصل إليه منال العقول لما في المعقول من افتراق المتقابلات، فكان في القدرة إيلاج المتقابلات بعضها في بعض وإيداع بعضها في بعض على وجه لا يتكيف بمعقول ولا ينال بفكر- انتهى. {وتولج النهار في الَّيل} أي تدخل كلاً منهما في الآخر بعد ظهوره حتى يذهب فيه فيخفى ولا يبقى له أثر. قال الحرالي: ولما جعل المتعاقبين من الليل والنهار متوالجين جعل المتباطنين من الحي والميت مخرجين، فما ظهر فيه الموت بطنت فيه الحياة، وما ظهرت فيه الحياة بطن فيه الموت؛ انتهى. فقال سبحانه وتعالى: {وتخرج الحي} أي من النبات والحيوان {من الميت} منهما {وتخرج الميت} منهما {من الحي} منهما كذلك. قال الحرالي: فهذه سنة الله وتعالى وحكمته في الكائن القائم وفي الكون الدائر، فأما في الكون الدائر فبإخراج حي الشجر والنجم من موات البذر والعجم، وبظهوره في العيان كان أحكم في البيان مما يقع في الكائن القائم، كذلك الكائن القائم يخرج الحي المؤمن الموقن من الميت الكافر الجاهل {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} [التوبة: 14] ويخرج الكافر الآبي من المؤمن الراحم {يا نوح إنه ليس من أهلك} [هود: 46] أظهر سبحانه وتعالى بذلك وجوه الإحكام والاشتباه في آيتي خلقه ليكون ذلك آية على ما في أمره، وليشف ذلك عما يظهر من أمر علمه وقدرته على من شاء من عباده كما أظهر في ملائكته وأنيبائه، وكما خصص بما شاء من إظهار عظيم أمره في المثلين الأعظمين: مثل آدم وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فأنزلت هذه السورة لبيان الأمر فيما اشتبه على من التبس عليه أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فهو تعالى أظهر من موات الإنسانية ما شاء من الإحياء بإذنه، وأظهر في آدم عليه الصلاة والسلام ما شاء من علمه حين علم آدم الأسماء كلها كذلك أظهر في عيسى عليه الصلاة والسلام ما شاء من قدرته كما أظهر في الخلق ما شاء من ملكه، فملك من شاء ونزع الملك ممن شاء، وأعز من شاء وأذل من شاء، وأظهر بالنهار ما شاء وطمس بالليل ما شاء، وأولج المتقابلين بعضهما في بعض وأخرج المتباطنين بعضهما من بعض- انتهى. ولما بدأ الآية سبحانه وتعالى مما يقتضي الترغيب بما هو محط أحوال الأنفس من الملك وأنواع الخير ختمها بمثل ذلك مما لا يقوم الملك ولا يطيب العيش إلا به فقال: {وترزق من تشاء} قوياً كان أو ضعيفاً {بغير حساب *} أي تعطيه عطاء واسعاً جداً متصلاً من غير تضييق ولا عسر، كما فعل بأول هذه الأمة على ما كانوا فيه من القلة والضعف حيث أباد بهم الأكاسرة والقياصرة وآتاهم كنوزهم وأخدمهم أبناءهم وأحلهم ديارهم. وقال الحرالي: ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا الإحكام والاشتباه في أمر العلية من الخلق وفيه من الإحكام والاشتباه نحو ما في الإيتاء والنزع ولما فيه من الوزن والإيتاء بقدر ختم بأعزيه وهو الإرزاق الذي لا يقع على وزن ولا يكون بحساب، وفيه إشعار بالإرزاق الختمي الذي يكون في آخر اليوم المحمدي للذين يؤتيهم الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملكه وعزه وسعة رزقه بغير حساب، فكما ختم الملك لبني إسرائيل بملك سليمان عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه وتعالى {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص: 39] كذلك يختم لهذه الأمة بأن يرزقهم بغير حساب حين تلقي الأرض بركاتها وتتطهر من فتنتها، فتقع المكنة في ختم اليوم المحمدي بالهداية والهدنة كما انقضت لبني إسرائيل بالملك والقوة- انتهى. ولما بان بهذه الآية أن لا شيء في يد غيره، واقتضى ذلك قصر الهمم عليه، وكان نصارى نجران إنما داموا على موالاة ملوك الروم لمحض الدنيا مع العلم ببطلان ما هم عليه حذر المؤمنين من مداناة مثل ذلك مع كونهم مؤمنين كما وقع لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه مما قص في سورة الممتحنة إشارة إلى أنه لا تجتمع موالاة المؤمنين وموالاة الكافرين في قلب إلا أوشكت إحداهما أن تغلب على الأخرى فتنزعها، فقال تعالى منبهاً على ذلك كله سائقاً مساق النتيجة لما قبله- وقال الحرالي: ولما كان مضمون هاتين الآيتين بشرى لخصوص هذه الأمة وعمومها بالعز والملك وختم الرزق الذي لا حساب فيه كان من الحق أن تظهر على المبشرين عزة البشرى فلا يتولوا غيره، ولما قبض ما بأيدي الخلق إليه في إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، وأظهر إحاطة قدرته على كل شيء وإقامة امتحانه بما أولج وأخرج، وأنبأ عن إطلاق حد العد عن أرزاقه فسد على النفس الأبواب التي منها تتوهم الحاجة إلى الخلق؛ نهي المؤمنين الذين كانت لهم عادة بمباطنة بعض كفرة أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ومن شمله وصف الكفر أن يجروا على عادتهم في موالاتهم ومصافاتهم والحديث معهم، لأن المؤمنين يفاوضونهم بصفاء، والكافرون يتسمعون ويأخذون منهم بدغل ونفاق عليهم كما قال تعالى {هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} [آل عمران: 119] فنهاهم الله سبحانه وتعالى عما غاب عنهم خبرته وطيته فقال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون} أي الراسخون في الإيمان وعبر في أضدادهم بالوصف لئلا يتوهم ذلك في كل من تلبس بكفر في وقت ما فقال: {الكافرين أولياء} ونبه بقوله: {من دون المؤمنين} على أن ولاية أوليائه من ولايته، وأن المنهي عنه إنما هو الولاية التي قد توهن الركون إلى المؤمنين لأن في ذلك- كما قال الحرالي- تبعيد القريب وتقريب البعيد، والمؤمن أولى بالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» فأقواهم له ركن، وضعيفهم مستند لذلك الركن القوي، فإذا والاه قوى به مما يباطنه ويصافيه، وإذا اتخذ الكافر ولياً من دون مؤمنه القوي ربما تداعى ضعفه في إيمانهم إلى ما ينازعه فيه من ملابسة أحوال الكافرين، كما أنهم لما أصاخوا إليهم إصاخة أوقعوا بينهم سباب الجاهلية كما في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100] وكما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} [آل عمران: 149]، ولم يمنع سبحانه وتعالى من صلة أرحام من لهم من الكافرين، ولا من خلطتهم في أمر الدنيا فيما يجري مجرى المعاملة من البيع والشرى والأخذ والعطاء وغير ذلك ليوالوا في الدين أهل الدين، ولا يضرهم أن يباروا من لم يحاربهم من الكافرين- انتهى. ولما كان التقدير: فمن تولاهم وكل إليهم وكان في عدادهم، لأنه ليس من الراسخين في صفة الإيمان عطف عليه ترهيباً لمن قد تتقاصر همته فيرضى بمنزلة ما دون الرسوخ قوله: {ومن يفعل ذلك} أي هذا الأمر البعيد من أفعال ذوي الهمم الذي يكون به في عداد الأعداء بعد هذا البيان ومع رفع هذا الحجاب الذي كان مسدولاً على أكثر الخلق {فليس من الله} أي الذي بيده كل شيء فلا كفوء له {في شيء} قال الحرالي: ففي إفهامه أن من تمسك بولاية المؤمنين فهو من الله في شيء بما هو متمسك بعنان من هو له وسيلة إلى الله سبحانه وتعالى من الذين إذا رؤوا ذكر الله- انتهى. ولما كان من الناس القوي والضعيف والشديد واللين نظر إلى أهل الضعف سبحانه وتعالى فوسع لهم بقوله: {إلا أن تتقوا منهم تقاة} أي إلا أن تخافوا منهم أمراً خطراً مجزوماً به، لا كما خافه نصارى نجران وتوهمه حاطب، فحينئذ يباح إظهار الموالاة وإن كانت درجة من تصلب في مكاشرتهم وتعزز لمكابرتهم ومكاثرتهم، وإن قطع أعظم فإياكم أن تركنوا إليهم! فإن الله سبحانه وتعالى يحذركم إقبالكم على عدوه، فإن ذلك موجب لإعراضه عنكم {ويحذركم الله} أي الملك الأعظم {نفسه} فإنه عالم بما تفعلونه. وهو الحكم في الدنيا كما ترون من إذلاله العزيز وإعزازه الذليل، وهذا المحذر منه وهو نفسه سبحانه وتعالى- كما قال الحرالي- مجموع أسماء تعاليه المقابلة بأسماء أوصافهم التي مجموعها أنفسهم. وموجود النفس ما تنفس، وإن كانت أنفس الخلق تنفس على ما دونها إلى حد مستطاعها، فكان ما حذره الله من نفسه أولى وأحق بالنفاسة في تعالي أوصافه وأسمائه أن تنفس على من يغنيه فلا يستغني، ويكفيه فلا يكتفي ويريه مصارف سد خلاته وحاجاته فلا ينصرف إليها ولا يتوجه نحوها، فهو سبحانه وتعالى يعذب من تعرف له بنفسه فلم يعرفه أشد من عذاب من يتعرف له بآياته فلا يعتبر بها، بما أن كل ما أبداه من نفسه بلا واسطة فهو أعظم مما أبداه بالواسطة من نعيم وعذاب، فلا أعظم من نعيم من تعرف له بنفسه فعرفه، ولا أشد من عذاب من تعرف له بنفسه فأنكره- انتهى. ولما كانت مصائب الدنيا قد تستهان قال سبحانه وتعالى عاطفاً على نحو ما تقديره: فمن الله المبدأ:- وقال الحرالي: ولما كان الزائل أبداً مؤذناً بترك الاعتماد عليه أقام تعالى على المتمسك بما دونه حجة بزواله، فلا يستطيع الثبات عليه عند ما تناله الإزالة والإذهاب، ويصير الأمر كله لله، فأعلم أن المصير المطلق إلى الله سبحانه وتعالى، فنم تعرف إليه فعرفه نال أعظم النعيم، ومن تعرف إليه فأنكره نال أشد الجحيم- انتهى؛ فقال-: {وإلى الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {المصير *} أي وإن طال إملاؤه لمن أعرض عنه فيوشك أن ينتقم منه. ولما كانت الموالاة بالباطن المنهي عنها مطلقاً ودائماً قد تفعل ويدعى نفيها لخفائها أمره صلى الله عليه وسلم بتحذيرهم من موالاة أعدائه على وجه النفاق أو غيره فقال:- وقال الحرالي: ولما كان حقيقة ما نهى عنه في الولاية والتقاة أمراً باطناً يترتب عليه فعل ظاهر فوقع التحذير فيه على الفعل كرر فيه التحذير على ما وراء الفعل مما في الصدور ونبه فيه على منال العلم خفية، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم خفية، فإنه قد يترك الشيء فعلاً ولا تترك النفس الغية صغواً ونزوعاً إليه في أوقات، وكرر في ختمه التحذير ليتثنى التحذيران ترقياً من الظاهر في الفعل إلى باطن الحماية في العلم كما تثنى الأمران في الظاهر والباطن، وكان في إجراء هذا الخطاب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم بما أنه بشر مثلهم يلزمهم الاقتداء به فيما لم يبادروا إلى أخذه من الله في خطابه الذي عرض به نحوهم؛ انتهى. فقال تعالى-: {قل إن تخفوا} أي يا أيها المؤمنون {ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله} أي المحيط قدرة وعلماً، ثم قال عاطفاً على جملة الشرط التي هي مقول القول إرادة التعميم: {ويعلم ما} أي جميع ما {في السموات} ولما كان الإنسان مطبوعاً على ظن أنه إذا أخفي شيئاً في نفسه لا يعلمه غيره أكد بإعادة الموصول فقال: {وما} أي وجميع ما {في الأرض} ظاهراً كان أو باطناً. ولما كان ذو العلم لا يكمل إلا بالقدرة، وكان يلزم من تمام العلم شمول القدرة- كما سيأتي إن شاء الله تعالى برهانه في سورة طه- كان التقدير: فالله بكل شيء عليم، فعطف عليه قوله: {والله} أي بما له من صفات الكمال {على كل شيء قدير *} ومن نمط ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران: 5] مع ذكر التصوير كيف يشاء والختم بوصفي العزة والحكمة، وقد دل سبحانه وتعالى بالتفرد بصفتي العلم والقدرة على التفرد بالألوهية. ولما تم الوصف بالعلم والقدرة بعد التحذير من سطواته ذكر يوم المصير المحذر منه، المحصى فيه كل كبير وصغير، المعامل فيه كل عامل بما يليق به، الذي يتم فيه انكشاف الأوصاف لكل ذكي وغبي فقال تعالى: {يوم} وهو معمول لعامل من معنى «يحذر» {تجد كل نفس} والذي يرشد إلى تعيين تقدير هذا العامل- إذا جعل العامل مقدراً- قوله سبحانه وتعالى {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] سابقاً لها ولا حقاً، ويجوز أن يكون بدلاً من يوم في قوله {ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 9] وتكون فتحته للبناء لإضافته إلى الجملة- والله سبحانه وتعالى أعلم، والمراد بالنفس- والله سبحانه وتعالى أعلم- المكلفة {ما عملت من خير محضراً} أي لا نقص فيه ولا زيادة، بأمر القاهر القادر على كل شيء {وما عملت من سوء} حاضراً ملازماً، فما عملت من خير تود أنها لا تفارقه ولا ينقص منه شيء [وما عملت من سوء {تود} أي تحب حباً شديداً {ولو أن بينها وبينه} أي ذلك العمل السوء {أمداً} أي زماناً. قال الحرالي: وأصله مقدار ما يستوفي جهد الفرس من الجري، فهو مقدار ما يستوفي ظهور ما في التقدير إلى وفاء كيانه {بعيداً} من البعد، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى- انتهى. فالآية من الاحتباك: ذكر إحضار الخير دلالة على حضور السوء، وود بعد السوء دلالة على ود لزوم الخير. ولما ذكر هول ذلك اليوم كان كأنه قال: فاتقوه فإن الله يحذركموه {ويحذركم الله} أي الذي له العظمة التي لا يحاط بها {نفسه} فالله سبحانه وتعالى منتقم ممن تعدى طوره ونسي أنه عبد، قال الحرالي: أن تكون لكم أنفس فتجد ما عملت، ويلزمها وطأة هذه المؤاخذة، بل الذي ينبغي أن يبرئ العبد من نفسه تبرئته من أن يكون له إرادة، وأن يلاحظ علم الله وقدرته في كلية ظاهره وباطنه وظاهر الكون وباطنه- انتهى. ولما كان تكرير التحذير قد ينفر بين أن تحذيره للاستعطاف، فإنه بنصب الأدلة وبعث الدعاة والترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية المسبب عنه سعادة الدارين، فهو من رأفته بالمحذرين فقال بانياً على ما تقديره: ويعدكم الله سبحانه وتعالى فضله ويبشركم به لرأفته بكم: {والله} أي والحال أن الذي له وحده الجلال والإكرام {رؤوف بالعباد *} قال الحرالي: فكان هذا التحذير الخاتم ابتدائياً، والتحذير السابق انتهائياً، فكان هذا رأفة سابقة، وكان الأول الذي ترتب على الفعل تحذيراً لاحقاً متصلاً بالمصير إلى الله، وهذا الخاتم مبتدأً بالرأفة من الله. والرأفة- يقول أهل المعاني- هي أرق الرحمة، والذي يفصح عن المعنى- والله سبحانه وتعالى أعلم- أنها عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، فنم تحقق أن الأمر لله سبحانه وتعالى وجد رفقه وفضله ورحمته عليه لما برئ من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نفسه، فأحبه لذلك، قيل لأعرابي: إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله؟ فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه فلذلك إذا تحقق العبد ذلك من ربه أحبه بما وحّده وبما وجده في العاجلة فحماه أن يجد عمل نفسه في الآجلة- انتهى. وقد علم أن الآية من الاحتباك: التحذير أولاً دال على الوعد بالخير ثانياً، والرأفة ثانياً دالة على الانتقام أولاً- والله سبحانه وتعالى الموفق. ولما فطمهم سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار ظاهراً وباطناً بما اقتضى القصر على موالاة أهل الله لنفيه من تولي الكفر عن أن يكون في شيء من الله، وكان الإنسان ربما وإلى الكافر وهو يدعي محبة الله سبحانه وتعالى، وختم برأفته سبحانه وتعالى بعباده، وكانت الرأفة قد تكون عن المحبة الموجبة للقرب، فكان الإخبار بها ربما دعا إلى الاتكال، ووقع لأجله الاشتباه في الحزبين، جعل لذلك سبحانه وتعالى علامه فقال:- وقال الحرالي: لما كان أعظم ما يترامى إليه مقامات السالكين إلى الله سبحانه وتعالى القاصدين إليه من مبدإ حال الذكر الذي هو منتهى المقامات العشر المترتبة في قوله سبحانه وتعالى {إن المسلمين} محبة الله سبحانه وتعالى بما أن المحبة وصلة خفية يعرف الحاس بها كنهها، أقام سبحانه وتعالى الحجة على المترامين لدعوى القرب من الله والادعاء في أصل ما يصل إليه القول من محبته بما أنبأنهم أن من انتهى إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى فليتبع هذا النبي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى فمن اتبعه أحبه الله، فقامت بذلك الحجة على كل قاصد وسالك ومتقرب، فإن نهاية الخلق أن يحبوا الله، وعناية الحق أن يحب العبد، فرد سبحانه وتعالى جميع من أحاط به الاصطفاء والاجتباء والاختصاص، ووجههم إلى وجهة الاتباع لحبيبه الذي أحبه، كما قال صلى الله عليه وسلم «لو أن موسى بين أظهركم ما وسعه إلا اتباعي» وإذا كان ذلك في موسى عليه الصلاة والسلام كان في المنتحلين لملته ألزم بما هم متبعون لمتبعه عندهم، وأصل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في في الأبد وجب أن يكون النهاية في المعاد، فألزم الله سبحانه وتعالى على الخليقة ممن أحب الله سبحانه وتعالى أن يتبعوه، وأجرى ذلك على لسان إشعاراً بما فيه من الخير والوصول إلى الله سبحانه وتعالى من حيث إنه نبي البشرى، وليكون ذلك أكظم لمن أبى اتباعه- انتهى، فقال سبحانه وتعالى-: {قل إن كنتم تحبون الله} أي المحيط بصفات الكمال مخلصين في حبه لاعتقاد أنه على غاية الكمال، فإن الكمال محبوب لذاته {فاتبعوني} قال الحرالي: قد فسر صلى الله عليه وسلم ظاهر اتباعه فقال «في البر» وأصل حقيقته الإيمان بالله والإيثار لعباده، والتقوى وهي ملاك الأمر وأصل الخير، وهي إطراح استغناء العبد بشيء من شأنه، لا من مِلك ولا من مُلك ولا من فعل ولا من وصف ولا من ذات حتى يكون عنده كما هو عند ربه في أزله قبل أن يكون موجوداً لنفسه ليكون أمره كله بربه في وجوده كما كان أمره بربه قبل وجوده لنفسه، وقد فسر حق التقاة التي هي غاية التقوى بأن يكون العبد يشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ويطيع فلا يعصى- انتهى. قال الإمام: المحبة توجب اإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض عن غيره- انتهى. فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب، وكتاب الله سبحانه وتعالى يكذبه {يحببكم الله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى حباً ظهرت أماراته بما أعلم به الفك، فإن الأمر المنجي غاية النجاة إنما هو محبة الله سبحانه وتعالى للعبد، لا محبة العبد لله، فإنه ربما كانت له حالة يظن بها أنه يحب الله والواقع أنه ليس كما ظن لكونه يعمل بما يسخطه سبحانه وتعالى، والأمارة الصحيحة لذلك رد الأمر كله إلى الله، وحينئذ يفعل الله مع العبد فعل المحب من حسن الثناء والإكرام بالثواب. قال الحرالي: فإن من رد الأمانة إلى الله سبحانه وتعالى أحبه الله فكان سمعه وبصره ويده ورجله، وإذا أحب الله عبداً أراحه وأنقذه من مناله في أن يكون هو يحب الله، فمن أحب الله وله، ومن أحبه الله سكن ي ابتداء عنايته وثبته الله سبحانه وتعالى- انتهى. فقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن الدلالة الناشئة عن الرافة من الإكرام بالنعم من الهداية بالبيان والإبلاغ في الإحسان عامة للمحبوب وغيره، وأن الدليل على المحبة الإلهية هو الاتباع الداعي «اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة» «ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه». ولما كان الدين شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه، لما عليه العبد من العجز والمعبود من عظيم الأمر أتبع ذلك الإعلام بأنه مع إيصال الثواب يرفع العقاب فقال- وقال الحرالي: ولما كان من آية حب الله له صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه من قوله: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 1 2] أجرى لمن أحبه الله باتباعه حظ منه في قوله-: {ويغفر لكم ذنوبكم} أي مطلقاً، وذنب كل عبد بحسبه، لأن أصل معنى الذنب أدنى مقام العبد، فكل ذي مقام أعلاه حسنته وأدناه ذنبه، ولذلك في كل مقام توبة، حتى تقع التوبة من التوبة فيكمل الوجود والشهود. ولما كان هذا الأمر من أخص ما يقع، وكان مما دونه مقامات خواص الخلق فيما بين إسلامهم إلى محبتهم لله سبحانه وتعالى ختم تعالى بما يفهم أحوال ما يرجع إلى من دون هذا الكمال فقال: {والله} أي الذي له الكمال كله {غفور رحيم *} أي لمن لم ينته لرتبة حب الله له بما يقع في أثناء أحواله من موجب المغفرة واستدعاء الرحمة حيث لم يصل إلى المحبة، فمرحوم بعد مغفرة وهو القاصد، ومغفور بعد محبة وهو الواصل- انتهى. ولما كان الاتباع قد يكون عن غلبة لا عن طاعة بين أنه لا ينفع إلا مع الإذعان فقال- أو يقال: لما كان صلى الله عليه وسلم في غاية الرأفة بالعبادة وكان يعلم أن آحاد الأمة لا يقدرون على كمال اتباعه لما له مع العصمة من الطبع على خصال الكمال كان كأنه قال له سبحانه وتعالى: فإن لم يقدروا على كمال اتباعي؟ فقال: {قل} وقال الحرالي: ولما ذكر تعالى ما تقدم من التحذيرين، في رتبتين أولاهما في الذكر بحاتين من موجب التحذيرين، فكان الاتباع موجب النجاة من التحذير الثاني الباطن الذي مبدؤه الرأفة، وكان الطاعة موجب النجاة من التحذير الأول السابق، فمن أطاع الله روسوله فيما نهى عنه من اتخاذ ولاية الكافرين من دون ولاية المؤمنين سلم من التحذيرالظاهر، ومن اتبع الرسول فأحبه الله سلم من التحذير الباطن، فختم الخطاب بما به بدأ، أو لما كانت رتبة الاتباع عليا وليتها رتبة الائتمار، فهو إما متبع على حب وإما مؤتمر على طاعة، فمن لم يكن من أهل الاتباع فليكن من أهل الطاعة، فكأن الخطاب يفهم: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} [آل عمران: 31]، فإن لم تستطيعوا أن تتبعوني فأطيعوني، انتهى فقال سبحانه وتعالى: {قل أطيعوا الله} أي لما له من صفات الكمال. ولما قدم أن رضاه في اتباعه صلى الله عليه وسلم فدل على أن الطاعتين واحدة قال موحداً للعامل: {والرسول} أي الكامل في الرسلية لما له به سبحانه وتعالى من مزايا الاتصال، وهو وإن كان اسماً كلياً لكنه كان حين إنزال هذا الخطاب مختصاً بأكمل الخلق محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المرسل إلى الخلق كافة على أن طاعته طاعة لجميع الرسل الذين بينوا للناس أمره صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وسلم. قال الحرالي: فكان إشارة ذلك إلى ما نهوا عنه من التولي إلى ما ينتظم في معنى ذلك، وفيه إشعار بأن الأمر يكون فيه محوطاً بالرحمة من حيث ذكر الرسول فيه بما هو رحمة للعالمين {فإن تولوا} أي عن طاعة خطاب الله والرسول المحفوف باللطف من الله سبحانه وتعالى والرحمة من رسول الله- انتهى. و{تولوا} يحتمل المضارع والمضي، فكان الأصل في الكلام: {فإن الله} الذي له الغنى المطلق لا يحبكم، أو: لا يحبهم، ولكنه أظهر الوصف المعلم بأن التولي كفر فقال: {لا يحب الكافرين *} قال الحرالي: أفرد لله لما كان وعيداً، إبقاء لرسوله صلى الله عليه وسلم في حيز الرحمة. ولما نفى عمن تولى أن يحبه كان في إشعارة أن هذا الكفر عموم كفر يداخل رتباً من الإيمان من حيث نفي عنه الحب فنفي منه ما يناله العفو أو المغفرة والرحمة ونحو ذلك بحسب رتب تناقص الكفر، لأنه كفر دون كفر، ومن فيه كفر فهو غير مستوفي اتباع الرسول بما أنه الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وإنما يحب الله من اتبع رسوله، فعاد الختم في الخطاب إلى إشعار من معنى أوله وفي إلاحته أن حب الله للعبد بحسب توحيده، فكلما كان أكمل توحيداً كان أحب، وما سقط عن رتبة أدنى التوحيد الذي هو محل الأمر بطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كان كفراً بحسب ما يغطى على تلك الرتبة من التوحيد، لأن هذه السورة سورة إلهية إيمانية حبية توحيدية، فخطابها مخصوص بما يجري في حكم ذلك من الإيمان والكفر والمحكم والمتشابه وكشف غطاء الأعين ورفع حجب القلوب- انتهى. وقد وضح أن الآية من الاحتباك- فأصل نظمها: فإن تولوا فإن الله لا يحبهم لكفرانهم، وإن أقبلوا فإن الله يحبهم لإيمانهم، فإن الله لا يحب الكافرين والله يحب المؤمنين- إثبات التولية في الأول يدل على حذف الإقبال من الثاني، إثبات الكراهة في الثاني يدل على حذف مثلها في الأول. ولما كان الأصفياء أخص من مطلق الأحباب بين بعض الأصفياء وما أكرمهم به تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الشريف «فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» تنبيهاً لوفد نصارى نجران وغيرهم على أنه مثل ما اصطفى لنفسه ديناً اصطفى للتخلق به ناساً يحبونه ويطيعونه ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه، وليسوا من صفات الكافرين في شيء فقال- أو يقال: إنه سبحانه وتعالى لما شبه أفعاله في التشابه وغيره بأقواله وعرف أن الطريق الأقوم رد المتشابه منها إلى الواضح المحكم والالتجاء في كشف المشكل إليه مع الاعتقاد الجازم المستقيم، وبين أن الموقف عن هذا الطريق الأقوم الوقوف مع العرض الدنيوي مع الرئاسة وغيرها وألف الدين مع التعلل فيه بالتمني الفارغ، وأنهى ذلك وتوابعه إلى أن ختم بتهديد من تولى عن الحق أخذ في تصوير تصويره في الأرحام كيف شاء بما شوهد من ذلك ولم يشك فيه من أحوال أناس هم من خلص عباده المقبلين على ما يرضيه فقال: أو يقال ولعله أحسن: ولما أخبر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فكفروا بذلك، وألحق به ما تبعه إلى أن ختم بالأمر باتباع الرسول وبأنه لا يحب الكافرين بالتولي عن رسله اشتد تشوف النفس إلى معرفة الرسل الآتين بالعلم الذين توجب مخالفتهم الكفر فبينهم بقوله: وقال الحرالي: لما كان منزل هذه السورة لإظهار المحكم والمتشابه في الخلق والأمر قدم سبحانه وتعالى بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية لتظهر معادلة خلق عيسى عليه الصلاة والسلام آخراً لمتقدم خلق آدم عليه الصلاة والسلام أولاً، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي الكون في علو ورحه ودنو أديم تربته وأنه سبحانه وتعالى نزل الروح إلى الخلق الآدمي كما قال {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 9] وظهر أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى كما أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة إلى كمال التسوية إلى أن نفخ فيه من روحه، فكان ترقي الآدمي إلى النفخة لتنزل الروح إلى الطينة الإنسانية التي تم بها وجود عيسى عليه الصلاة والسلام كما كمل وجود آدم عليه الصلاة والسلام بالنفخة.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)} ولما كان أصل الإبداء نوراً علياً نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل إلى أن بدأ عالماً دنياوياً محتوياً على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله، فأنبأ الخطاب عن تصييره إلى الصفاء بالافتعال؛ انتهى- فقال سبحانه وتعالى: {إن الله} أي بجلاله وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته {اصطفى} أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه {آدم} أباكم الأول الذي لا تشكون في أنه خلقه من تراب، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما استغربوا من عيسى كونه من غير ذكر، وآدم أغرب حالاً منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء- كما سيأتي ذلك صريحاً بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح. قال الحرالي: فاصفطاه من كلية مخلوقه الذي أبداه ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً، وأجرى اسمه من أظهر ظاهره الأرضي وأدنى أدناه، فسماه آدم من أديم الأرض، على صيغة أفعل، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية. فكان مما أظهر تعالى في اصطفاء آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله: لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه إياه أسماء الأشياء فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة، أسجد له الأبرار والروحانيين الأنوار، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إماماً، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه- انتهى {ونوحاً} أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم. وقال الحرالي: أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاء على اصطفاء آدم ترقياً إلى كمال الوجود الآدمي وتعالياً إلى الوجود الروحي العيسوي، فاصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بما جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول «لا إله إلا الله»، لما تقدم بين آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطناً لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها، وكما صفي آدم من الكون كله صفي نوحاً عليه السلام وولده الناجين معه من مطرح الخلق الآدمي الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، فلم يكن فيهم ولا في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} [الأحزاب: 7] فكان ميثاق نوح عليه السلام ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر آدم، فتصفى بكلمة التوحيد النوارانيون منه، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه، كما كان آدم صفوة حينه- انتهى. ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه بقوله: {وآل إبراهيم} أي الذين أود فيهم الخوارق ولا سيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم، وكذا قوله: {وآل عمران} في قوله: {على العالمين *} إشارة إلى أنه كسائر أقاربه منهم، وأفصح بذلك إفصاحاً جلياً في قوله: {ذرية بعضها من بعض} أي فهم كلهم من بني آدم، لا مزية لبعضهم على بعض في ذلك، لا مزية في شيء من ذلك، وأنتم لا تشكون فيه من شيء من الخصائص مما دون أمد عيسى عليه الصلاة والسلام، فما لكم لما خص سبحانه وتعالى آل عمران من بين العالمين بخرق العادة فيهم بإخراج ولد من أنثى فقط من غير ذكر لم تردوا ما لم تعرفوا منه إلى ما تعرفون من الخوارق حتى انجلى لكم واتضح لديكم؟ بل أشكل لعيكم وقامت فيكم قيامتكم بما يفضي إلى الشك في قدرة الإله الذي لا تشكون أن من شك في تمام قدرته كفر. وقال الحرالي: فإثبات هذه الجملة بتشابه وتماثل تتعالى عن نحوه الإلهية، فأبان هذا الخطاب في عيسى عليه الصلاة والسلام اصطفاء من جملة هذا الاصطفاء، فكما لم يقع فيمن سواه لبس من أمر ألإلهية فكذلك ينبغي أن لايقع فيه هو أيضاً لبس لمن يتلقن بيان الإحكام والتشابه من الذي أنزل الكتاب محكماً ومتشابهاً وأظهر الخلق بادياً وملتبساً انتهى. وقد عاد سبحانه وتعالى بهذا الخطاب على أحسن وجه إلى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام الذي نزلت هذه الآيات كلها في المجادلة في أمره والإخبار عن حمله وولادته وغير ذلك من صفاته التي يتنزه الإله عنها، وكراماته التي لا تكون إلا للقرب، فأخبر أولاً عن حال أمه وأمها وأختها وما اتفق لهن من الخوارق التي تمسك بوقوع مثلها من عيسى عليه السلام من كفر برفعه فوق طوره، ثم شرع في قص أمره حتى لم يدع فيه لبساً بوجه. وقال الحرالي: في التعبير عن اصطفاء إبراهيم ومن بعده عليهم الصلاة والسلام في إشعار الخطاب اختصاص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما هو أخص من هذا الاصطفاء من حيث انتظم في سلكه آله لاختصاصه هو بالخلة التي لم يشركه فيها أهل هذا الاصطفاء، فاختص نمط هذا الاصطفاء بآله، وهم- والله سبحانه وتعالى أعلم- إسحاق ويعقوب والعيص عليهم الصلاة والسلام ومن هو منهم من ذريتهم لأن إسماعيل عليه السلام اختص بالوصلة بين إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب صلوات الله وسلامه عليهم، فكان مترقى ما هو لهم من وراء هذا الاصطفاء، ولأن إنزال هذا الخطاب لخلق عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو من ولد داود عليه الصلاة والسلام فيما يذكر، وداود من سبط لاوي بن إسرائيل عليهم الصلاة والسلام فيما ينسب، فلذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- جرى هذا الاصطفاء على آله، فظهر من مزية هذا الاصطفاء لآله ما كان من اصطفاء موسى عليه السلام بالتكليم وإنزال الكتاب السابق {يا موسى إني اصطفيتك على الناس} [الأعراف: 144] فكان هذا الاصطفاء استخلاص صفاوة من صفاوة نوح عليه الصلاة والسلام المستخلصين من صفاوة آدم عليه الصلاة والسلام، وآل عمران- والله سبحانه وتعالى أعلم- مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليقع الاصطفاء في نمط يتصل من آدم إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ليحوزوا طرفي الكون روحاً وسلالة، والعالمون علم الله الذي له الملك، فكما أن الملك لا بد له من علم يعلم به بدوه وظهوره جعل الله ما أبداه من خلقه علماً على ظهور ملكه بين يدي ظهور خلقه في غاية يوم الدين عاماً، وفي يوم الدنيا لمن شاء من أهل اليقين والعيان خاصاً، وأعلى معناه بما ظهر في لفظه من الألف الزائدة على لفظ العلم، فاصطفى سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام على الموجودين في وقته، وكذلك نوحاً وآل إبراهيم وآل عمران كلاًّ على عالم زمانه، ومن هو بعد في غيب لم تبد صورته في العالم العياني لم يلحقه بعد عند أهل النظر اسم العالم وأشار سبحانه وتعالى بذكر الذرية من معنى الذرء الذي هو مخصوص بالخلق ليظهر انتظام عيسى عليه الصلاة والسلام في سلك الجميع ذرءاًَ، وأنه لا يكون مع الذرء لبس الإلهية، لأن الله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فكان نصب لفظ الذرية تكييفاً لهذا الاصطفاء المستخلص على وجه الذر، وهو الذي يسميه النحاة حالاً- انتهى. ولما ذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الذين اصطفاهم، وكان مدار أمر الاصطفاء على العلم، ومدار ما يقال لهم وفيهم مما يكون كفراً أو إيماناً على السمع ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله عاطفاً على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى يفعل بإحاطته ما يريد: {والله} أي المحيط قدرة وعلماً {سميع عليم *} إشارة إلى أنه اصطفاهم على تمام العلم بهم ترغيباً في أحوالهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم. ولما كان جل المقصود هنا بيان الكرامات في آل عمران لا سيما في الولادة، وكان آدم الممثل به عليه الصلاة والسلام قد تقدم بيان أمره في سورة البقرة سورة الكتاب المثمر للعلم، وكذا بيان كثير مما اصطفى به إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام إذ كان معظم القصد بالكلام لذريته، وكان معظم المقصود من ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كونه في عمود النسب، وليس في أمر ولادته ما هو خارج عن العادة قال طاوياً لمن قبل: {إذ} أي اذكر جواباً لمن يجادلك في أمرهم ويسألك عن حالهم حين {قالت امرأة عمران} وهي حامل. وقال الحرالي: لما اكن من ذكر في الاصطفاء إنما ذكر توطئة لأمر عيسى عليه الصلاة والسلام اختص التفصيل بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام دون سائر من ذكر معه، وكان في هذه المناظرة بين الصورتين حظ من التكافؤ من حيث ذكر أمر خلق آدم عليه الصلاة والسلام في سورة البقرة، فذكر خلق المثل المناظر له في السورة المناظرة لسورة البقرة وهي هذه السورة، فعاد توقيت هذا القول إلى غاية هذا الاصطفاء، فأنبأ عن ابتداء ما اختص منه بعيسى عليه الصلاة والسلام من قول أم مريم امرأة عمران حين أجرى على لسانها وأخطر بقلبها أن تجعل ما في بطنها نذراً، ففصل ما به ختم من اصفطاء آل عمران، ولذلك عرفت أم مريم في هذا الخطاب بأنها امرأة عمران ليلتئم التفصيل بجملته السابقة {رب إني نذرت لك ما في بطني} وكان نذر الولد شائعاً في بني إسرائيل إلا أنه كان عندهم معهوداً في الذكور لصلاحهم لسدانة بيت الله والقيام به، فأكمل الله سبحانه وتعالى مريم لما كمل له الرجال- كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع» فذكر مريم بنت عمران عليها السلام، فكان من كمالها خروج والدتها عنها، وكان أصله من الأم التي لها الإشفاق، فكان خروجها أكمل من خروج الولد لأنها لها في زمن الحمل والرضاع والتربية إلى أن يعقل الولد أباه فحينئذ يترقى إلى حزب أبيه، ولذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- أري إبراهيم عليه الصلاة والسلاح ذبح ولده عند تمييزه، وخرجت امرأة عمران عن حملها وهو في بطنها حين ما هو أعلق بها- انتهى. ونذرته لله تعالى حال كونه {محرراً} أي لا اعتراض ولا حكم لأحد من الخلق عليه، قال الحرالي: والتحرير طلب الحرية، والحرية رفع اليد عن الشيء من كل وجه، وفي الإتيان بصيغة التكثير والتكرير إشعار بمضي العزيمة في قطع الولاية عنه بالكلية لتسلم ولايته لله تعالى- انتهى. {فتقبل مني} ولما كان حسن إجابة المهتوف به الملتجأ إليه على حسب إحاطة سمعه وعلمه عللت سؤالها في التقبل بأن قصرت السمع والعلم عليه سبحانه فقالت: {إنك أنت} أي وحدك {السميع العليم *} فقالت كما قال سلفها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {ربنا تقبل منا} [البقرة: 127]، أي فلا يسمع أحد قولي مثل سمعك، ولا يعلم أحد نيتي مثل علمك ولا أنا، فإن كان فيهما شيء لا يصلح فتجاوز عنه. ولما أخبر بما اقتضى مضى عزمها قبل الوضع أخبر بتحقيقه بعده فقال: {فلما وضعتها قالت} أي تحسراً ذاكرة وصف الإحسان استمطاراً للامتنان {رب إني وضعتها} قال الحرالي: من الوضع وهو إلقاء الشيء المستثقل {أنثى} هي أدنى زوجي الحيوان المتناكح- انتهى. ولما كان الإخبار عادة إنما هو لمن لا يعلم الخبر بينت أن أمر الله سبحانه وتعالى ليس كذلك، لأن المقصود بإخباره ليس مضمون الخبر وإنما هو شيء من لوازمه وهنا التحسر فقالت: {والله} أي الذي له صفات الكمال. ولما كان المراد التعجيب من هذه المولودة بأنها من خوارق العادات عبرت عنها بما فقالت: {أعلم بما وضعت} وعبرت بالاسم الأعظم موضع ضمير الخطاب إشارة إلى السؤال في أن يهبها من كماله ويرزقها من هيبته وجلاله، وفي قراءة إسكان التاء الذي هو إخبار من الله سبحانه وتعالى عنها- كما قال الحرالي- إلاحة معنى أن مريم عليها الصلاة والسلام وإن كان ظاهرها الأنوثة ففيها حقيقة المعنى الذي ألحقها بالرجال في الكمال، حتى كانت ممن كمل من النساء لما لا يصل إليه كثير من رجال عالمها، فكان في إشعاره أن الموضوع كان ظاهره ذكراً وحقيقته أنثى. ولما كان مقصودها مع إمضاء نذرها بعد تحقق كونها أنثى التحسر على ما فاتها من الأجر في خدمة البيت المقدس بما يقابل فضل قوة الذكر على الأنثى وصلاحيته للخدمة في كل أحواله قالت: {وليس الذكر} أي الذي هو معتاد للنذر وكنت أحب أن تهبه لي لأفوز بمثل أجره في هذا الفرض في قوته وسلامته من العوارض المانعة من المكث في المسجد ومخالطة القومة {كالأنثى} التي وضعتها، وهي داخلة في عموم النذر بحكم الإطلاق في الضعف وعارض الحيض ونحوه فلا ينقص يا رب أجري بسبب ذلك، ولو قالت: وليست الأنثى كالذكر، لفهم أن مرادها أن نذرها لم يشملها فلا حق للمسجد فيها من جهة الخدمة. قال الحرالي: وفي إشعار هذا القول تفصل مما تتخوفه أن لا يكون ما وضعته كفافاً لنذرها، لما شهدت من ظاهر أنوثة ما وضعت، فجعلها الله سبحانه وتعالى لها أكمل مما اشتملت عليه عزيمتها من رتبة الذكورة التي كانت تعهدها، فكانت مريم عليها السلام أتم من معهود نذرها مزيد فضل من ربها عليها بعد وفاء حقيقة مقصودها في نذرها- انتهى. ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه وتعالى كالحالية التي قبله إذا أسكنت التاء، والتقدير: قالت كذا والحال أن الله أعلم منها بما وضعت، والحال أيضاً أنه ليس الذكر الذي أرادته بحكم معتاد النذر كالأنثى التي وهبت لها فدخلت فيه بحكم إطلاقه، بل هي أعلى، لأن غاية ما تعرفه من المنذورين أن يكون كأنبيائهم المقررين لحكم التوراة، وهذه الأنثى مع ما لها من العلو في نفسها ستكون سبباً في السؤال في نبي هو أعظم أنبيائهم، وتلد صاحب شريعة مستقلة، ثم يكون مقرراً لأعظم الشرائع. ولما تم ما قالته عند الوضع او قاله الله في تلك الحالة أتم سبحانه وتعالى الخبر عن بقية كلامها وأنها عدلت عن مظهر الجلالة إلى الخطاب على طريق أهل الحضرة، وأكدت إعلاماً بشدة رغبتها في مضمون كلامها فقال حاكيا: {وإني سميتها مريم} ومعنى هذا الاسم بلسانهم: العابدة. قال الحرالي: فيه إشعار بأن من جاء بشيء أو قربه فحقه أن يجعل له اسماً، ورد أن السقط إذا لم يسم يطالب من حقه أن يسميه فيقول: يا رب! أضاعوني، فكان من تمام أن وضعتها أن تسميها، فيكون إبداؤها لها وضع عين وإظهار اسم، لما في وجود الاسم من كمال الوجود في السمع كما هو في العين، ليقع التقرب والنذر بما هو كامل الوجود عيناً واسماً. ولما كانت محررة لله سبحانه وتعالى كان حقاً أن يجري الله سبحانه وتعالى إعاذتها قولاً كما هو جاعلها معاذة كوناً من حيث هي له، وما كان في حمى الملك لا يتطرق إليه طريدة فقالت: {وإني أعيذها بك} وفي قوله: {وذريتها} إشعار بما أوتيته من علم بأنها ذات ذرية، فكأنها نطقت عن غيب من أمر الله سبحانه وتعالى مما لا يعلمه إلا الله، فهو معلمه لمن شاء. ولما كان من في حصن الملك وحرزه بجواره بعيداً ممن أحرقه بنار البعد وأهانه بالرجم حققت الإعاذة بقولها: {من الشيطان الرجيم *} وفي هذا التخليص لمريم عليها السلام بالإعاذة ولذريتها حظ من التخليص المحمدي لما شق صدره ونبذ حظ الشيطان منه وغسل قلبه بالماء والثلج في البداية الكونية، وبماء زمزم في البداية النبوية عند الانتهاء الكوني، فلذلك كان لمريم ولذريتها بمحمد صلى الله عليه وسلم اتصال واصل؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، من أجل أنه ليس بيني وبينه نبي، وبما هو حكم أمامه في خاتمة يومه وقائم من قومه دينه». ولما أخبر بدعائها أخبر بإجابتها فيه فقال: {فتقبلها} فجاء بصيغة التفعل مطابقة لقولها {فتقبل}، ففيه إشعار بتدرج وتطور وتكثر، كأنه يشعر بأنها مزيد لها في كل طور تتطور إليه، من حيث لم يكن فاقبل مني فلم تكن إجابته {فقبلها}، فيكون إعطاء واحداً منقطعاً عن التواصل والتتابع، فلا تزال بركة تحريرها متجدداً لها في نفسها وعائداً بركته على أمها حتى تترقى لى العلو المحمدي فيتكون في أزواجه ومن يتصل به- انتهى. وجاء بالوصف المشعر بالإحسان مضافاً إليها إبلاغاً في المعنى فقال: {ربها} قال الحرالي: وظهر سر الإجابة في قوله سبحانه وتعالى: {بقبول حسن} حيث لم يكن «بتقبل»- جرياً على الأول. ولما أنبأ القبول عن معنى ما أوليته باطناً أنبأ الإنبات عما أوليته ظاهراً في جسمانيتها، وفي ذكر الفعل من «أفعل» في قوله: {وأنبتها} والاسم من «فعل» في قوله: {نباتاً حسناً} إعلام بكمال الأمرين من إمدادها في النمو الذي هو غيب عن العيون وكمالها في ذاتية النبات الذي هو ظاهر للعين، فكمل في الإنباء والوقوع حسن التأثير وحسن الأثر، فأعرب عن إنباتها ونباتها معنى حسناً- انتهى. فوقع الجواب لأنها عناية من الله سبحانه وتعالى بها على ما وقع سؤالها فيه، فلقد ضل وافترى من قذفها وبهتها، وكفر وغلا من ادعى في ولدها من الإطراء ما ادعى. وقال الحرالي: وقد أنبأ سبحانه وتعالى في هذه السورة الخاصة بقصة مريم عليها الصلاة والسلام من تقبلها وإنباتها وحسن سيرتها بما نفي اللبس في أمرها وأمر ولدها، لأن المخصوص بمنزل هذه السورة ما هو في بيان رفع اللبس الذي ضل به النصارى، فيذكر في كل سورة ما هو الأليق والأولى بمخصوص منزلها، فلذلك ينقص الخطاب في القصة الواحدة في سورة ما يستوفيه في سورة أخرى لاختلاف مخصوص منزلها، كذلك الحال في القصص المتكررة في القرآن من قصص الأنبياء وما ذكر فيه لمقصد الترغيب والتثبيت والتحذير وغير ذلك من وجوه التنبيه- انتهى، وفيه تصرف. ولما كان الصغير لا بد له فيما جرت به العادة من كبير يتولى أمره قال: {وكفلها} قال الحرالي: من الكفل وهو حياطة الشيء من جميع جهاته حتى يصير عليه كالفلك الدائر {زكريا} وفي قراءة التشديد إنباء بأن الله سبحانه وتعالى هو في الحقيقة كفيلها بما هو تقبلها، وفي استخلاص لزكريا من حيث جعله يد وكالة له فيها- انتهى. ولما كان من شأن الكفيل القيام بما يعجز عنه المكفول بين سبحانه وتعالى أن تلك الكفالة إنما كانت جرياً على العوائد وأنه تبين أن تقبل الله لها أغناها عن سواه فقال في جواب من لعله يقول: ما فعل في كفالتها؟: {كلما} أي كان كلما {دخل عليها زكريا المحراب} أي موضع العبادة. وقال الحرالي: هو صدر البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة وجهد حرب {وجد عندها رزقاً} وذلك كما وجد عند خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قطف العنب- كما سيأتي في آخر المائدة، ومثل ذلك كثير في هذه الأمة، وفي هذه العبارة أي من أولها إلاحة لمعنى حسن كفالته وأنه كان يتفقدها عند تقدير حاجتها إلى الطعام بما تفيده كلمة {كلما} من التكرار، فيجد الكفيل الحق قد عاجلها برزق من غيب بما هو سبحانه وتعالى المتولي لإنباتها ليكون نباتها من غيب رزقه فتصلح لنفخ روحه ومستودع كلمته، ولا يلحقها بعد الإعاذة ما فيه مس من الشيطان الرجيم الذي أعاذها الله سبحانه وتعالى منه بكثرة الاختلاط في موجودات الأرزاق، فكان من حفظها أن تولى الله سبحانه وتعالى أرزاقها من غيب إلا ما يطيبه من باد، وليكون حسن نباتها من أحسن رزق الله سبحانه وتعالى كما يقال: من غذي بطعام قوم غذي بقلوبهم ومن غذي بقلوبهم آل إلى منقلبهم، وكانت هي مثل ما كفلها كافلها ظاهراً كفلته باطناً حين أبدى الله سبحانه وتعالى له من أمره ما لم يكن قبل بداً له، فكان لمريم عليها الصلاة والسلام توطئة في رزقها لما يكون كماله في حملها فيكون رزقها بالكلمة ابتداء ليكون حملها بالكلمة، فعند ذلك طلب زكريا عليه السلام نحو ما عاين لها من أن يرزقه الولد في غير إبّانه كما رزق مريم الرزق في غير أوانه، وفي تعيين محلها بالمحراب ما يليح معنى ما ذكر من رجوليتها باطناً من حيث إن محل النساء أن يتأخرن فأبدى الله سبحانه وتعالى في محلها ذكر المحراب إشارة بكمالها، والمحراب صدر البيت المتخذ للعبادة، ويف لزومها لمحرابها في وقت تناول الرزق إعلام بأن الحبيس والمعتكف بيته محرابه ومحرابه بيته، بخلاف من له متسع في الأرض ومحل من غير بيت الله، إنما المساجد بيوت أهل الله المنقطعين إليه، فهو محلهم في صلاتهم ومحلهم في تناول أرزاقهم، ففيه إشعار بحضورها، وحضور أهل العكوف حضور سواء في صلاتهم وطعامهم، ولذلك أنمى حال العبد عند ربه بما هو عليه في حال تناول طعامه وشرابه، فأهل الله سواء محياهم ومماتهم وأكلهم وصلاتهم، من غفل عند طعامه قلبه لم يستطع أن يحضر في صلاته قلبه، ومن حضر عند طعامه قلبه لم يغب في صلاته قلبه، وفي ذكر الرزق شائعاً إشعار بأنها أنواع من أرزاق من حيث إنه لو اختص يخص به ما هو أخص من هذا الاسم- انتهى. ولما كان كأنه قيل: فما كان يقول لها إذا رأى ذلك؟ قيل: كان كلما وجد ذلك، أو: لما تكرر وجدانه لذلك {قال يا مريم أنّى} أي من أين {لك هذا} قال الحرالي: كلمة أنى تشعر باستغرابه وجود ذلك الرزق من وجوه مختلفة: من جهة الزمان أنه ليس زمانه، ومن جهة المكان أنه ليس مكانه، ومن جهة الكيف ووصوله إليها أنه ليس حاله، وفي ذكر الضمير في قوله: {قالت هو من عند الله} إيذان بنظرها إلى مجموع حقيقة ذلك الرزق لا إلى أعيانه، فهو إنباء عن رؤية قلب، لا عن نظر عين لأن هو كلمة إضمار جامعة لكل ما تفصلت صورة مما اتحد مضمره، ولما لم يكن من معهود ما أظهرته حكمته سبحانه مما يجريه على معالجات أيدي الخلق قالت {من عند الله} ذي الجلال والإكرام، لأن ما خرج من معهود معالجة الحكمة فهو من عنده، وما كان مستغرباً فيما هو من عنده فهو من لدنه، فهي ثلاث رتب: رتبة لدنية، ورتبة عندية، ورتبة حكمية عادية؛ فكان هذا وسط الثلاث- كما قال تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنه علماً} [الكهف: 65] حيث كان مستغرباً عند أهل الخصوص كما قال: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً} [الكهف: 71] والإمر العجب، ولعلو رتبته عن الرتبة العادية جرى النبأ عنه مضافاً إلى الاسم العظيم الذي هو مسمى الأسماء كلها من حيث لم يكن {من عند ربي} لما في ذكر اسم الربوبية من إشعار بمادة أو قريب منها أو ما كان من نحوها كما قال {هذا من فضل ربي} [النمل: 40] لما كان من عادته المكنة على الملوك، وكان ممكناً فيما أحاط به موجود الأركان الأربعة- انتهى. ولما أخبرت بخرقه سبحانه وتعالى لها العادة عللت ذلك بقولها مؤكدة تنبيهاً على أن ذلك ليس في قدرة ملوك الدنيا: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكلية. قال الحرالي: في تجديد الاسم العظيم في النبأ إشعار باتساع النبأ وإيذان وإلاحة بأن ذلك يكون لك ولمن شاء الله كما هو لي بما شاء الله، من حيث لم يكن أنه فيكون مليحاً لاختصاص ما بها، ويؤيده عموم قولها: {يرزق من يشاء} وقولها: {بغير حساب *} يشعر بأنه عطاء متصل، فلا يتحدد ولا يتعدد، فهو رزق لا متعقب عليه، لأن كل محسوب في الإبداء محاسب عليه في الإعادة، فكان في الرزق بغير حساب من علاج الحكمة بشرى برفع الحساب عنهم في المعاد وكفالة بالشكر عنه، لأن أعظم الشكر لرزق الله سبحانه وتعالى معرفة العبد بأنه من الله تعالى، إنما يشكر رزق الله من أخذه من الله سبحانه وتعالى- انتهى. ولما كان كأنه قيل: فما قال زكريا حينئذ؟ قيل: {هنالك} أي في ذلك الوقت وذلك المكان العظيمي المقدار {دعا زكريا ربه} تذكراً لما عودهم الله سبحانه وتعالى به من الإكرام، فظهرت عليه كرامات هذه الكفالة، قال الحرالي: لما أشهده الله سبحانه وتعالى أنه يخرق عادته لمن شاء بكلمته في حق كفيلته في الظاهر، الكافلة له في هذا المعنى، دعا ربه الذي عوده بالإحسان أن يرزقه ولداً في غير إبانه كما رزق مريم رزقاً في غير زمانه فوجب دعاؤه- انتهى. {قال رب} أي الذي عودني بإحسانه {هب لي من لدنك} قال الحرالي: طلب عليه من باطن الأمر كما قال سبحانه وتعالى: {وعلمناه من لدنا علماً} [الكهف: 65]، وكما قال فيه {وحناناً من لدنا} [مريم: 13]، لأن كل ما كان من لدن فهو أبطن من عند {ذرية} فيه إشعار بكثرة ونسل باق، فأجيب بولد فرد لما كان زمان انتهاء في ظهور كلمة الروح وبأنه لا ينسل فكان يحيي حصوراً لغلبة الروحانية على إنسانيته- انتهى. {طيبة} أي مطيعة لك لأن ذلك طلبة أهل الخصوص، ثم علل إدلاله على المقام الأعظم بالسؤال بقوله: {إنك سميع الدعاء} أي مريده ومجيبه لأن من شأن من يسمع- ولم يمنع- أن يجب إذا كان قادراً كاملاً، وقد ثبتت القدرة بالربوبية الكاملة التي لا تحصل إلا من الحي القيوم، بخلاف الأصنام ونحوها مما عبد فإنها لا تسمع، ولو سمعت لم تقدر على الإجابة إلى ما تسأل فيه لأنها مربوبة. قال الحرالي: أعلم الداعي بما لله سبحانه وتعالى من الإجاة، والقرب «وسيلة في قبول» دعائه- انتهى.
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} ولما كان الله سبحانه وتعالى عند ظن عبده به سمع دعاءه كما قال {فنادته} أي فتسبب عن دعائه وحسن رجائه أن نادته {الملائكة} يعني هذا النوع، لا كلهم بل ناداه البعض، وكان متهيئاً بما آتاه الله سبحانه وتعالى من المفضل لمناداة الكل، كما هو شأن أهل الكمال من الرسل {وهو قائم يصلي في المحراب} وهو موضع محاربة العابد للشيطان، وهو أشرف الأماكن لذلك. قال الحرالي: فيه إشعار بسرعة إجابته ولزومه معتكفه وقنوته في قيامه وأن الغالب على صلاته القيام لأن الصلاة قيام، وسجود يقابله، وركوع متوسط، فذكرت صلاته بالقيام إشعاراً بأن حكم القيام غالب عليها- انتهى. ثم استأنف في قراءة حمزة وابن عامر بالكسر لجواب من كأنه قال: بأي شيء نادته الملائكة؟ قوله: {أن الله يبشرك} قال الحرالي: فذكر الاسم الأعظم المحيط معناه بجميع معاني الأسماء، ولم يقل إن ربك لما كان أمر إجابته من وراء الحكمة العادية؛ وفي قوله: {بيحيى} مسمى بصيغة الدوام- مع أنه كما قيل: قتل- إشعار بوفاء حقيقة الروحانية الحياتية فيه دائماً، لا يطرقه طارق موت الظاهر حيث قتل شهيداً- انتهى. {مصدقاً بكلمة} أي نبي خلق بالكلمة لا بالمعالجة العادية، يرسله الله سبحانه وتعالى إلى عباده فيكذبه أكثرهم ويصدقه هو، وإطلاق الكلمة عليه من إطلاق السبب على المسبب. قال الحرالي: فكان عيسى عليه الصلاة والسلام كلمة الله سبحانه وتعالى، ويحيى مصدقه بما هو منه كمال كلمته حتى أنهما في سماء واحدة، ففي قوله: {من الله} إشعار بإحاطته في ذات الكلمة- انتهى. {وسيداً وحصوراً} أي فلا يتزين بزينة لأنه بالغ الحبس لنفسه والتضييق لعيها في المنع من النكاح. قال في القاموس: والحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك، أو الممنوع منهن، أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن، والمجبوب- والهَيوب المحجم عن الشيء. وقال الحرالي: وهو من الحصر وهو المنع عما شأن الشيء أن يكون مستعملاً فيه- انتهى {ونبياً} ولما كان النبي لا يكون إلا صالحاً لم يعطف بل قال: {من الصالحين *} إعلاماً بمزية رتبة الصلاح واحترازاً من المتنبيين، فكأنه قيل: فما قال حين أجابه ربه سبحانه وتعالى؟ فقيل: {قال} يستثبت بذلك ما يزيده طمأنينة ويقيناً وسكينة {رب} أي أيها المحسن إلي. ولما كان مطلوبه ولداً يقوم مقامه فيما هو فيه من النبوة التي لا يطيقها إلا الذكور الأقويا الكلمة، وكانت العادة قاضية بأن ولد الشيخ يكون ضعيفاً لا سيما إن كان حرثه مع الطعن في السن في أصله غير قابل للزرع أحب أن يصرح له بمطلوبه فقال: {أنّى} أي كيف ومن أين {يكون لي} وعبر بما تدور مادته على الغلبة والقوة زيادة في الكشف فقال: {غلام} وفي تعبيره به في سياق الحصور دليل على أنه في غاية ما يكون من صحة الجسم وقوته اللازم منه شدة الداعية إلى النكاح، وهو مع ذلك يمنع نفسه منه منعاً زائداً على الحد، لما عنده من غلبة لاشهود اللازم منه الإقبال على العبادة بكليته والإعراض عن كل ما يشغل عنها جملة لا سيما النكاح، بحيث يظن أنه لا إرب له فيه، وهذا الموافق للتعبير الأول للحصور في القاموس، وهو الذي ينبغي ألا يعرج على غيره لأنه بناء مبالغة من متعد، ولأنه أمدح له صلى الله عليه وسلم، ومهما دار الشيء على صفة الكمال في الأنبياء عليهم السلام وجب أن لا يعدل عنه، وما ورد- كما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة مريم عليها السلام- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذكره مثل هذه القذاة» فقد ضعفوه، وعلى تقدير صحته فيكون ذلك إخباراً عن أنه لما أعرض عنه رأساً ضعف ما معه لذلك، فهو إخبار عن آخر أمره الذي أدت إليه عزيمته، والآية مشيرة إلى ما اقتضته خلقته وغريزته وإن كان الجمع لكمال الوجود الإنساني بالنكاح أكمل كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم ويقع لعيسى عليه السلام بعد نزوله {وقد} أي والحال أنه قد {بلغني الكبر} إلى حد لا يولد فيه عادة {وامرأتى عاقر} قال الحرالي: من العقر وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرماً- انتهى؛ كذا قال، وآية سورة مريم تدل على أن المعنى أنها لم تزل عقيماً، وعليه يدل كلام أهل اللغة، قال في القاموس في الراء: العقرة وتضم: العقم، وقد عُقرت كعُنى فهي عاقر، ورجل عاقر وعقير: لا يولد له ولد، والعُقَرة كهمزة: خرزة تحملها المرأة لئلا تلد، وقال في الميم: العقم بالضم: هزمة تقع في الرحم فلا تقبل الولد، عقمت كفرح ونصر وكرم وعُنى، ورحم عقيم وامرأة عقيم ورجل عقيم: لا يولد له، وقال الإمامان أبو عبد الله القزاز في ديوانه وعبد الحق في واعيه: والعقر بضم العين وسكون القاف مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر، يقال: الإمام أبو غالب «ابن التياني» في كتابه الموعب صاحب [تلقيح] العين: العقر مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر، لكن خلقة، ثم قال وتعقرت: إذا ولدت ثم أمسكت- والله الموفق. ثم وصل به قوله: {قال كذلك} أي مثل هذا الفعل الجليل البعيد الرتبة. ولما كان استنباؤه عن القوة والكمال لا عن الخلق عبر سبحانه في تعليل ذلك بالفعل بخلاف ما يأتي في قصة مريم عليها السلام فقال: {الله يفعل ما يشاء *} لأنه المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فكأنه قيل: قد قرت عينه فا قال؟ قيل {قال} إرادة تعجيل البشرى وتحقيق السراء: {رب اجعل لي آية} أي علامة أعلم بها ذلك {قال آيتك ألا تكلم الناس} أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام دنيوي {ثلاثة أيام}. ولما كان الكلام يطلق على الفعل مجازاً استثنى منه قوله: {إلا رمزاً} لتخلص هذه المدة للذكر شكراً على النعمة فاحمد ربك على ذلك. قال الحرالي: والرمز تلطف في الإفهام بإشارة تحرك طرف كاليد واللحظ والشفتين ونحوها، والغمز أشد منه باليد ونحوها- انتهى. فعدم الكلام مع صحة آلته دليل إيجاد المتكلم مع ضعف آلته إلى حد لا يتكون عنها عادة، ولما كان الأتم في القدرة أن يحبس عن كلام دون آخر قال: {واذكر ربك} أي بالحمد وهو أن تثبت له الإحاطة بكل كمال {كثيراًً} في الأيام التي منعت فيها من كلام الناس خصوصاً، وفي سائر أوقاتك عموماً {وسبح} أي أوقع التسبيح لمطلق الخليل ربك بأن تنفي عنه كل نقص {بالعشي} وقال الحرالي: من العشو وأصل معناه: إيقاد نار على علم لمقصد هدى أو قرى ومأوى على حال وهن، فسمي به عشي النهار لأنه وقت فعل ذلك، ويتأكد معناه في العشاء، ومنه سمي الطعام: العشاء {والإبكار *} وأصله المبادرة لأول الشيء، ومنه التبكير وهو السرعة، والباكورة وهو أول ما يبدو من الثمر، فالإبكار اقتطاف زهرة النهار وهو أوله- انتهى. ولما فرغ مما للكافل بعد ما نوه بأمر المكفولة بياناً لاستجابة الدعاء من أمها لها أعاد الإشارة بذكرها والإعلام بعلي قدرها فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا ما للكافل فاذكره لهم فإنهم لا يشكون معه في نبوتك: {و} اذكر {إذ قالت الملائكة} وعبر بالجمع والمراد جبريل وحده عليه الصلاة والسلام كما في سورة مريم عليها السلام لتهيئها لخطاب كل منهم كما مضى {يا مريم إن الله} أي الذي له الأمر كله {اصطفاك} أي اختارك في نفسك، لا بالنظر إلى شيء آخر عما يشين بعض من هو في نفسه خيار {وطهرك} أي عن كل دنس {واصطفاك} أي اصطفاء خاصاً {على نساء العالمين *} فمن هذا الاصطفاء والله سبحانه وتعالى أعلم كما قال الحرالي: أن خلصت من الاصطفاء الأول العبراني إلى اصطفاء على عربي حتى أنكحت من محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي؛ قال صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: «أما شعرت أن الله سبحانه وتعالى زوجني معك مريم بنت عمران»- انتهى. ولما أخبرها سبحانه وتعالى بما اختصها به أمرها بالشكر فقال: {يا مريم اقنتي} أي أخلصي أفعالك للعبادة {لربك} الذي عودك الإحسان بأن رباك هذه التربية. ولما قدم الإخلاص الذي هو روح العبادة أتبعه أشرفها فقال: {واسجدي} فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. قال الحرالي: وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي- أي الثاني- ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله سبحانه وتعالى من سر عظمته التي هي إزاره على ما لم يطلع عليه أحداً ممن سواها في قوله: {واركعي مع الراكعين *} كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]- إلى ما يقع من كمال ما بشرت به حيث يكلم الناس كهلاً في خاتمة اليوم المحمدي، ويكمل له الوجود الإنساني حيث يتزوج ويولد له- كما ذكر، ولك كله فيما يشعر به ميم التمام في ابتداء الاسم وانتهائه، وفيما بين التمامين من كريم التربية لها ما يشعر به الراء من تولي الحق لها في تربيتها ورزقها، وما تشعر به الياء من كمالها الذي اختصت على عالمها- انتهى. والمراد باتباع قصتها لما مضى التنبيه على انخراطها في سلك ما مضى من أمر آدم ويحيى إفصاحاً، وإبراهيم في ابنية إلاحة في خرق العادة فيهم، وأن تخصيصها بالإنكار أو التعجب والتنازع مع الإقرار بأمرهم ليس من أفعال العقلاء؛ والظاهر أن المراد بالسجود في هذا المقام ظاهره وبالركوع الصلاة نفسها، فكأنه قيل: واسجدي مصلية ولتكن صلاتك مع المصلين أي في جماعة، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال، ولم يقل: مع الراكعات، لأن الاقتداء بالرجال أفضل وأشرف وأكمل، وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم عليه السلام ولا من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أتباعهم إلا في موضع واحد لا يحسن جعله فيه على ظاهره، ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء: الأول إطلاق لفظها من غير بيان كيفية، والثاني إطلاق لفظ السجود مجرداً، والثالث إطلاقه مقروناً بركوع أو جثو أو خرور على الوجه ونحو ذلك؛ ففي السفر الأول منها في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ماتت زوجته سارة رضي الله تعالى وسأل بني حاث أهل تلك الأرض أن يعطوه مكاناً يدفنها فيه فأجابوه: فقام إبراهيم فسجد لشعب الأرض بني حاث وكلمهم؛ وفيه في قصة ربانية قال: وسجد على الأرض وقال: يا رب- فذكر دعاء ثم قال: وصلى إبراهيم بين يدي الرب؛ وفيه في قصة عبد لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى بلاد حران يخطب لإسحاق عليه السلام امرأة فظفر بقصده: فجثا الرجل- أي عبد إبراهيم- على الأرض فسجد للرب وقال: تبارك الله رب سيدي إبراهيم؛ وفيه لما أجابه أهل المرأة: فلما سمع غلام إبراهيم كلامهم سجد على الأرض قدام المرأة، وفيه عند لقاء عيصو لآخيه يعقوب عليه الصلاة والسلام: فدنت الأمان وأولادهما فسجدوا- أي لعيصوا، ودنت ليا وولدها فسجدوا؛ فلما كان أخيراً دنت راحيل ويوسف فسجدوا؛ وفيه في قصة يوسف عليه السلام: ودنا إخوته فخروا له سجداً وقالوا له: ها نحن لك عبيد؛ وفي السفر الثاني عند قدوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل وإخباره لهم بإرسال الله سبحانه وتعالى له وإظهاره لهم الآيات: فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم وجثا الشعب وسجدوا للرب؛ وفيه في خروجهم من مصر: فركع الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى؛ وفيه: فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً؛ وفيه في تلقي موسى عليه السلام لختنه شعيب عليهما السلام إذ جاءه يهنئه بما أنعم الله عليه بعد غرق فرعون: فخرج موسى يتلقى ختنه وسجد له وقبله وسأل كل منهما عن سلامة صاحبه؛ وفيه: وقال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام عند ما بشره بقتل الكنعانيين وغيرهم من سكان بلاد القدس: لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها ولا تفعلوا كأفعالهم- بل كبهم كباً على وجوههم وكسر أصنامهم- واعبدوا الرب إلهكم، وفي أوائل السفر الثالث في ذكر ظهور مجد الرب لهم في قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها على حياة موسى عليه الصلاة والسلام: وعاين ذلك جميع الشعب وحمدوا الله سبحانه وتعالى وخر الشعب كله على وجهه، وفي الرابع عندما هم بنو إسرائيل بالرجوع إلى مصر تضجراً من حالهم: فخر موسى وهارون عليهما السلام على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها؛ وفيه: وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها، فخرا ساجدين على وجوههما؛ وفيه عندما تذمروا عليه من أجل العطش: فجاء موسى وهارون من عند الجماعة إلى باب قبة الزمان فخرا على وجوههما فظهر لهما مجد الرب- فذكر قصة ضرب الحجر بالعصا وانفجار الماء؛ وفيه في قصة بلعام بن باعور حين رأى ملكاً في طريقه فجثا على وجهه ساجداً. وأما إطلاق لفظ الصلاة فقال في آخر لاسفر الثاني: وكان إذا خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى قبة الزمان كان جميع الشعب يقفون ويستعد كل امرئ منهم على باب خيمته، وينظرون إلى موسى عليه الصلاة والسلام من خلفه حتى يدخل إلى القبة، وإذا دخل موسى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة، ويكلم موسى وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرئ منهم على باب خيمته؛ وفيه: وعمل سطلاً من نحاس فنصبه عند منظر النسوة اللاتي يأتين فيصلين على باب قبة الأمد. وكل ما فيها من ذكر الصلاة فهكذا يطلق لفظه غير مقرون بما يرشد إلى كيفية، فلا فائدة في سرده؛ وهذا القبة أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه الصلاة والسلام باتخاذها مظهر المجد وأن يجعلها كهيئة الغمام الذي ظهر له مجده تعالى فيه في جبل طور سيناء، وهي من غرائب الدهر في الارتفاع والسعة والهيئة، ففيها من الخشب والبيوت والتوابيت والأعمدة والجواهر وصفائح الذهب والفضة والنحاس والسرداقات والستور من الحرير والأرجوان والكتاب والأطناب وغير ذلك مما يكل عنه الوصف، وكله بنص نم الله سبحانه وتعالى على الطول والعرض والوزن والمحل بحيث إنه كان فيها من صفائح الذهب ومساميره ونحوها تسعة وعشرون قنطاراً وأربعمائة وثلاثون مثقالاً بمثقال القدس، ومن الفضة مائة قنطار وألف وسبعمائة وسبعون مثقالاً، ومن النحاس سبعون قنطاراً وألفان وأربعمائة مثقال؛ وكانت هذه القبة تنصب في مكان من الأرض وينزل بنو لاوي سبط موسى عليه الصلاة والسلام وهارون حولها يخدمونها بين يدي هارون عليه الصلاة والسلام وبنيه، ومن دنا منها من غيرهم احترق، وينزل أسباط بني إسرائيل حول بني لاوي، لكل سبط منزلة لا يتعداها من شرقها وغربها وجنوبها وشمالها، كل ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام؛ وكان السحاب يغشاها بالنهار، وكان النار تضيء عليها بالليل وتزهر، فما دام السحاب مجللاً لها فهم مقيمون، فإذا ارتفع عنها كان إذناً في سفرهم. فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك حينئذٍ يسمى صلاة، وإلاّ كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم، وذلك موافق للغة، قال في القاموس: سجد: خضع؛ والخضوع التطأمن، وأما المكان الذي فيه ذكر الركوع فالظاهر أن معناه: فصلى الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى، لأن الركوع في اللغة يطلق على معان منها الصلاة، يقال: ركع- أي صلى، وركع- إذا انحنى كبواً، والراكع من يكبو على وجهه، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره، لأنه لا يمكن في حال السجود، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن بأولى مما ذكرته في الركوع- والله سبحانه وتعالى أعلم، واحتججت باللغة لأن مترجم النسخة التي وقعت لي في عداد البلغاء، يعرف ذلك من تأمل مواقع ترجمته لها، على أني سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه ليس فيها ركوع، ثم رأيت البغوي صرح في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43] بأن صلاتهم لا ركوع فيها، وكذا بان عطية وغيرهما. ولما كان المقصود من ذكر هذه الآيات بيان الخوارق التي كانت لآل عمران من زكريا ويحيى وعيسى وأمه عليهم الصلاة والسلام للمجادلة بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وبيان أن ما أشكل عليهم من أمره ليس خارجاً عن إشكال الخوارق في آله، وكان الرد على كل طائفة بما تعتقد أولى وجب ذكر ذلك من الأناجيل الأربعة الموجودة الآن بين أظهر النصارى: ذكر قصة يحيى عليه الصلاة والسلام في حمله وولادته ونبوته وما اتفق في ذلك من الخوارق من الأناجيل وقد مزجت بي ألفاظها فجعلتها شيئاً واحداً على وجه ألم بعضه بأول أمر المسيح عليه الصلاة والسلام؛ قال مترجمها في أول إنجيل لوقا: كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن، أي حبر إمام، اسمه زكريا من خدمة آل أبيا، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات، وكانا كلاهما تقيين قدام الله سائرين ي جميع وصاياه وحقوق الرب بغير عيب، ولم يكن لهما ولد لأن اليصابات كانت عاقراً، وكانا كلاهما قد طعنا في أيامهما، فبينما هو يكهن في أيام ترتيب خدمته أمام الله كعادة الكهنوت إذ بلغته نوبة وضع البخور فجاء ليبخر، فدخل إلى هيكل الله وجميع الشعب يصلون خارجاً في وقت البخور، فتراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين مذبح البخور، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف فقال له الملاك: لا تخف يا زكريا! قد سمعت طلبتك، وأمرأتك اليصابات تلد ابناً، ويدعي اسمه يوحنا، ويكون لك فرح وتهلل، وكثير يفرحون بمولده، يوكون عظيماً قدام الرب، لا يشرب خمراً ولا سكراً، ويمتلئ من روح القدس وهو في بطن أمه، ويعيد كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم، وهو يتقدم أمامه بالروح وبقوة ألياء، ويقبل بقلوب الآباء على الأبناء والعصاة إلى علم الأبرار، ويُعد للرب شعباً مستقيماً، فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها؟ فأجاب الملاك وقال: أنا جبريل الواقف قدام الله، أرسلت أكلمك بهذا وأبشرك، ومن الآن تكون صامتاً، لا تستطيع أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون هذا. وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من إبطائه في الهيكل، فلما خرج لم يقدر يكلمهم، فعلموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، فكان يشير إليهم، وأقام صامتاً، فلما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته، ومن بعد تلك الأيام حملت اليصابات امرأته، وكتمت حملها خمسة أشهر قائلة: هذا ما صنع بي الرب في الأيام التي نظر إليّ فيها لينزع عني العار بين الناس، ولما كانت في الشهر السادس أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الملاك من عند الله سبحانه وتعالى إلى مدينة في الجليل تسمى ناصرة إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود، واسم العذراء مريم، فلما دخل إليها الملاك قال لها: افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك! مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة ما هذا السلام؟ فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم! فقد ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً، ويدعى اسمه يسوع، هذا يكون عظيماً، وابن العذراء يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه انقضاء، فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها: روح القدس يحل عليك وقوة العلي تقبلك، فإنه ليس عند الله سبحانه وتعالى أمر عسير، فقالت مريم: هانذا عبدة الرب فيكون فيّ كقولك، وانصرف عنها الملاك، فقامت مريم في تلك الأيام ومضت مسرعة إلى عين كرم إلى مدينة يهودا، ودخلت إلى بيت زكريا فسلمت على اليصابات، فلما سمعت اليصابات صوت سلام مريم تحرك الطفل في بطنها، فامتلأت اليصابات من روح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت: مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك! من أين لي هذا أن يأتي أمر ربي إليّ، منذ وقع صوت سلامك في أذني تحرك الطفل بتهليل في بطني، فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من الرب! فقالت مريم: تعظم نفسي بالرب ويتهلل روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع عبدته، وقدوس اسمه، ورحمته لخائفيه، صنع القوة بذراعه وفرق المستكبرين بفكر قلوبهم، أنزل القادرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياع من الخيرات، فأقامت مريم عليها السلام عندها نحواً من ثلاثة أشهر وعادت إلى بيتها. ولما تم زمان اليصابات لتلد ولدت ابناً، فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أعظم رحمته معها، ففرحوا لها، فلما كانت في اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي ودعوه باسم أبيه زكريا فأجاب أمه قائلة: لا ولكن ادعوه يوحنا، فقالوا لها: ليس أحد في جنسك يدعى بهذا الاسم، فأشاروا إلى أبيه: ما تريد أن تسميه؟ فاستدعى لوحاً وكتب قائلاً: يوحنا، فتعجب جميعهم، وانفتح فوه قائلاً من ساعته ولسانه، وتكلم وبارك، ووقع خوف عظيم على جميع جيرانهم، وتُحدث بهذا الكلام في جميع تخوم يهودا، وفكر جميع السامعين في قلوبهم قائلين: ماذا ترى يكون من هذا الصبي! ويد الرب كانت معه، فامتلأ زكريا أبوه من روح القدس وبدأ قائلاً: تبارك الرب إله إسرائيل الذي اطلع وصنع نجاة لشعبه وأقام لنا قرن خلاص من بيت داود فتاه كالذي تكلم على أفواه أنبيائه القديسين من الأبد، خلاص من أعدائنا ومن يدي كل مبغضاً، صنع رحمة مع آبائنا، وذكر عهدة القديس: القسم الذي عهد به لإبراهيم أبينا ليعطينا الخلاص بلا خوف من يدي أعدائنا لنخدمه بالبر والعدل قدامه في كل أيام حياتنا، وأنت ايها الصبي نبي العلاء تدعى، وتنطلق قدام وجه الرب لتصلح طريقة ليعطي علم الخلاص لشعبه لمغفرة الخطايا بتحنن ورحمة، إلهنا الذي افتقدنا شرق من العلو ليضيء للجالس في الظلمة وظلال الموت لتستقيم سبل أرجلنا للسلامة. فأما الصبي فكان يشب ويتقوى بالروح وأقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل، وفي سنة خمس عشرة من ولاية طيباريوس قيصر وفيلاطوس النبطي على اليهودية وهيرودس رئيس الجليل، وفيلفوس أخوه على ربع الصورية وكورة أبطرحيون وأوساسوس رئيس على ربع الإيليا، وحنان وقيافا رؤساء الكهنة، حلت كلمة الله سبحانه وتعالى على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى كل البلاد المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا- كا هو مكتوب في سفر كلام أشعيا النبي- قائلاً: صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب فاصنعوا سبله مستقيمة، جميع الأودية تمتلئ وجميع الجبال والآكام تتضع، ويصير الوعر سهلاً والخشنة إلى طريق سهلة، ويعاين كل ذي جسد خلاص الله سبحانه وتعالى؛ وفي إنجيل متّى: وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات- هذا هو الذي في أشعيا النبي: إذ يقول صوت صارخ، وقال مرقس: مكتوب في أشعيا النبي: هوذا أنا مرسل ملاكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك، ثم استنعى صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب وسهلوا سبله، وكان لباس يوحنا وبر الإبل، ومنطقته جلداً على حقويه، وكان طعامه الجراد وعسل البر، حينئذٍ خرجوا إليه من يروشليم، وكل اليهودية وجميع كور الأردن، وكان يعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم؛ وفي مرقس: كان يوحنا يعمد في القفر ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا، وكان يخرج إليه جميع كور يهودا وكل يروشليم فيعمدهم في نهر الأردن معترفين بخطاياهم فقال للجمع الذين يأتون إليه ويعتمدون منه: يا ثمرة الأفاعي! وفي متى: فلما رأى كثيراً من الفريسيين والزنادقة يأتون إلى معموديته قال لهم: يا أولاد الأفاعي- ثم اتفق هو ولوقا- من دلكم على الهرب من الغضب الآتي؟ اعملوا الآن ثماراً تليق بالتوبة ولا تقولوا في نفوسكم: إن أبانا إبراهيم، أقول لكم: إن الله سبحانه وتعالى قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ها هوذا الفأس موضوع على أصول الشجر، وكل شجرة لا تثمر ثمرة طيبة تقطع وتلقى في النار، فسأله الجموع، ماذا نصنع؟ أجاب وقال لهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليصنع مثل ذلك، فأتى العشارون ليعتمدوا منه فقالوا: ماذا نصنع يا معلم؟ فقال لهم: لا تفعلوا أكثر مما أمرتم به، وسأله أيضاً الجند قائلين: ماذان نصنع نحن أيضاً؟ فقال لهم: لا تعيبوا أحداً ولا تظلموا أحداً، واكتفوا بأرزاقكم. وإن جميع الشعب فكروا في قلوبهم وظنوا أن يوحنا المسيح، أجابهم يوحنا أجمعين وقال لهم: أما أنا فأعمدكم بالماء للتوبة، وسيأتي الذي هو أقوى من الذي لا أستحق أن أحل سيور حذائه؛ وقال متى: لا أستحق أن أحمل حذاءه؛ وقال مرقس: وكان يبشر قائلاً: الذي يأتي بعدي أوقى مني، لست أهلاً- أعني لحل سيور حذائه، أنا أعمدكم بالماء وهو يعمدكم بروح القدس والنار، الذي بيده المرفش، ينقي به الذرة، ويجمع القمح إلى أهرائه، ويحرق التبن بناء لا تطفأ، ولا يخبز الشعب، ويبشرهم بأشياء كثيرة؛ وفي إنجيل يوحنا: كان إنسان أرسل من الله، اسمه يوحنا، جاء للشهادة للنور الذي هو نور الحق الذي يضيء لكل إنسان، الآتي إلى العالم، إلى خاصته، جاء وخاصته لم تقبله، فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً، والكلمة صارت جسداً، وحل فينا، ورأينا مجده مجداً مثل الوحيد الممتلئ نعمة، وحقاً يوحنا شهد من أجله وصرخ وقال: هذا الذي قلت إنه يأتي بعدي كان قبلي، لأنه أقدم مني، ومن امتلائه نحن بأجمعنا أخذنا نعمة من أجل أن الناموس بموسى أعطى، والنعمة والحق أوحيا بيسوع المسيح الذي لم يره أحد قط، الابن الوحيد. هذه شهادة يوحنا إذا أرسل إليه اليهود من يروشليم كهنة ولاويين- أي ناساً من أولاد لاوي- ليسألوه: من أنت، فاعترف وأقر أني لست المسيح، فسألوه: فمن ألياء؟ فقال: لست أنا النبي، قال: كلا! فقالوا له: فمن أنت لنرد الجواب إلى الذين أرسلونا، ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا الصوت الصارخ في البرية: سهلوا طريق الرب- كما قال أشعيا النبي. فأما أولئك الذين أرسلوا فكانوا من الفريسيين فقالوا: ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا ألياء ولا النبي؟ أجابهم يوحنا: أنا أعمدكم بالماء، وفي وسطكم قائم ذاك الذي ليستم تعرفونه، الذي يأتي بعدي وهو أقوى مني، وهو قبلى كان، ذاك الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه. هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد. قال لوقا: فأما هيرودس رئيس الربع فكان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلفوس ولأجل الشر الذي كان هيرودس يفعله، وزاد على ذلك أنه طرح يوحنا في السجن؛ وقال مرقس وقد ذكر آيات أظهرها المسيح: وسمع هيرودس الملك وقال: إن يوحنا المعمدان قام من الأموات، ومن أجل تلك القوات يعمل، وقال آخرون: إنه ألياء، وآخرون: إنه نبي كواحد من الأنبياء، فلما سمع هيرودس قال: أنا قطعت رأس يوحنا؛ وفي متى: وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان، وهو قام من الأموات، من أجل هذه القوات يعمل، وكان هيرودس قد أمسك يوحنا وشده وجعله في السجن، وقال مرقس: وحبسه من أجل هيروديا امرأة فيلفوس، لأنه كان قد تزوجها وقال له يوحنا: ما يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك، وكانت هيروديا حنقة عليه تريد قتله، ولم تقتله لأن هيرودس كان يخاف من يوحنا، لأنه يعلم أنه رجل صديق قديس ويحفظه ويسمع منه كثيراً بشهوة، وكان في يوم من الزمان وافى هيرودس مولود، فصنع وليمة لعظمائه ورؤسائه ومقدمي الجليل، ودخلت ابنة هيروديا فرقصت، فوافق ذلك هيرودس وجلساءه، فقال الملك للصبية: سلي ما أردت فأعطيك! وحلف لها أني أعطيك ما سألت ولو كان نصف ملكي، فخرجت وقالت لأمها: أي شيء أسأله؟ فقالت: رأس يوحنا المعمدان، فرجعت للوقت بسرعة إلى الملك وسألت رأس يوحنا على طبق، فحزن الملك، ومن أجل اليمين والمنكبين لم ير منعها، فأنفذ سيافاً من ساعته وأمر أن يؤتى برأسه في طبق، فمضى وقطع رأسه في الحبس وجاء به في طبق وأعطاه للصبية، فأخذته الصبية ودفعته لأمها؛ وسمع تلاميذه فجاؤوا ورفعوا جثته وجعلوها في قبر؛ قال متى: وجاء تلاميذه فأخذوا جسده ودفنوه وأتوا فأخبروا يسوع فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً، فسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدن، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ اعلاّءهم ومرضاهم انتهى.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)} ولما أتى نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها- والسامع خبير بأنه لم يخالط عالماً قط- صادقاً لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى، وكان من حق من يتنبه أن يبادر إلى الإذعان فيصرح بالإيمان، فلما لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت العتي فقال: {ذلك} أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام {من أنباء الغيب نوحيه} أي نجدد إيحاءه في أمثاله {إليك} في كل حين فما كنت لديهم في هذا الذي ذكرناه لك يوماً على هذا التحرير مع الإعجاز في البلاغة ويجوز أن تكون الجملة حالاً تقديرها: {و} الحال أنك {ما كنت} ولما كان هذا مع كونه من أبطن السر هو من أخفى العلم عبر فيه بلدي لما هو في أعلى رتب الغرابة كما تقدم في قوله: {هو من عند الله} وكررها زيادة في تعظيمه وتنبيهاً على أنه مما يستغرب جداً حتى عند أهل الاصطفاء فقال: {لديهم} قال الحرالي: لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه- انتهى. {إذ يلقون} لأجل القرعة- {أقلامهم} قال الحرالي: جمع قلم، وهو مظهر الآثار المنبئة عما وراءها من الاعتبار- انتهى {أيهم} أي يستهمون أيهم {يكفل مريم} أي يحضنها ويربيها تنافساً في أمرها لما شرفها الله تعالى به {وما كنت لديهم إذ} أي حين {يختصمون *} أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد- يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذا القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهاً على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران، وكأنه أتبع التنبيه ما كان في أول القصة من اقتراعهم بالأقلام واختصامهم في كفالتها لخفائه إلا على خواص أهل الكتاب، هذا مع ما في مناسبة الأقلام للبشارة بمن يعلمه الكتاب، واستمر في إكمال المقال على ذلك الأسلوب الحكيم حتى تمت الحجة واستقامت المحجة فقال تعالى مبدلاً من إذ الأولى إيذاناً بأن ما بينهما اعتراض لما نبه عليه من شريف الأغراض: {إذ قالت الملائكة يا مريم} ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد المقتضي للتفرد بالعظمة عبر بما صدرت به من اسم الذات الجامع لجميع الصفات فقال: {إن الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، فلا راد لأمره {يبشرك} وكرر هذا الاسم الشريف في هذا المقام زيادة في إيضاح هذا المرام بخلاف ما يأتي في سورة مريم عليها السلام، وقوله: {بكلمة} أي مبتدئة {منه} من غير واسطة أب هو من تسمية المسبب باسم السبب، والتعبير بها أوفق لمقصود السورة وأنفى لما يدعيه المجادلون في أمره، ثم بين أنه ليس المراد بالكلمة حقيقتها، بل ما يكون عنها ويكون فعالاًَ بها فقال مذكراً للضمير: {اسمه} أي الذي يتميز به عمن سواه مجموع ثلاثة أشياء: {المسيح} أصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم: من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والمزايا الفاضلة مباركاً، فدل سبحانه وتعالى على أن عيسى عليه الصلاة والسلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح وإن لم يُمسَح؛ وأما وصف الدجال بذلك فإما أن يكون لما كان هلاكه على يد عيسى عليه الصلاة والسلام وصف بوصفه- من باب التسمية بالضد، وإما أن يكون إشارة إلى أنه ملازم للنجاسة فهو بحيث لا ينفك- ولو مسح- عن الاحتياج إلى التطهير بالمسح من الدهن الذي يمسح به المذنبون ومن كان به برص ونحوه فيبرأ- والله سبحانه وتعالى أعلم. ولما وصفه بهذا الوصف الشريف ذكر اسمه فقال {عيسى} وبين أنه يكون منها وحدها من غير ذكر بقوله موضع ابنك: {ابن مريم} وذلك أنفى لما ضل به من ضل في أمره، وأوضح في تقرير مقصود السورة وفي تفخيم هذا الذكر بجعله نفس الكلمة وبإبهامه أولاً ثم تفسيره، وقوله: {اسمه} تعظيم لقدره وبيان لفضله على يحيى عليهما السلام حيث لم يجعل له في البشارة به مثل هذا الذكر، ثم أتم لها البشارة بأوصاف جعلها أحوالاً دالة على أنه يظهر اتصافه بها حال الولادة تحقيقاً لظهور أثر الكلمة عليه فقال: {وجيهاً} قال الحرالي: صيغة مبالغة مما منه الوجاهة، وأصل معناه الوجه وهو الملاحظ المحترم بعلو ظاهر فيه- انتهى. {في الدنيا} ولما كان ذلك قد لا يلازم الوجاهة بعد الموت قال: {والآخرة} ولما كانت الوجاهة ثمَّ مختلفة ذكر أعلاها عاطفاً بالواو إشارة إلى تمكنه في الصفات فقال: {ومن المقربين *} أي عند الله. ولما كان ذلك قد لا يقتضي خرق العادات قال: {ويكلم الناس} أي من كلمه من جميع هذا النوع، بأي لسان كان كلمه، حال كونه {في المهد} قال الحرالي: هو موطن الهدوء والسكون للمتحسس اللطيف الذي يكون بذلك السكون والهدو قوامه- انتهى. وبشرها بطول حياتها بقوله: {وكهلاً} أي بعد نزوله من السماء في خاتمة اليوم المحمدي، ويكون كلامه في الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت. قال الحرالي: والكهولة سن من أسنان أرابيع الإنسان، وتحقيق حده أنه الربع الثالث الموتر لشفع متقدم سنيه من الصبا والشباب فهو خير عمره، يكون فيمن عمره ألف شهر- بضع وثمانون سنة- من حد نيف وأربعين إلى بضع وستين، إذا قسم الأرباع لكل ربع إحدى وعشرون سنة صباً، وإحدى وعشرون شباباً، وإحدى وعشرون كهولة، وإحدى وعشرون شيوخة، فذلك بضع وثمانون سنة- انتهى. وهذا تحقيق ما اختلف من كلام أهل اللغة، وقريب منه قول الإمام أبي منصور عبد الملك بن أحمد الثعالبي في الباب الرابع عشر من كتابه فقه اللغة: ثم ما ادم بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين؛ ويقال: شاب الرجل، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر- انتهى. والكهل- قال أهل اللغة- مأخوذ من: اكتهل النبات- إذا تم طوله قبل أن يهيج، وكلام الفقهاء لا يخالفه، فإن مبناه العرف، فالنص على كهولته إشارة لأمه بأنه ممنوع من أعدائه إذا قصدوه، وتنبيه على أن دعواهم لصلبه كاذبة. ولما كانت رتبة الصلاح في غاية العظمة قال مشيراً إلى علو مقدارها: {ومن الصالحين *} ومعلماً بأنها محيطة بأمره، شاملة لآخر عمره، كما كانت مقارنة لأوله، وكأنها لما سمعت ذلك امتلأت تعجباً فاستخفها ذلك إلى الاستعجال بالسؤال قبل إكمال المقال بأن {قالت رب} أيها المحسن إلى {أنّى} أي من أين وكيف {يكون لي} ولما كان استبعادها لمطلق الحبل، لا بقيد كونه ذكراً كما في قصة زكريا عليه السلام قالت {ولد} وقالت: {ولم يمسسني بشر} لفهمها ذلك من نسبته إليها فقط. قال الحرالي: والبشر هو اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته، من معنى البشرة، وهو ظاهر لاجلد انتهى (ولعل هذا الكلام خطر لها ولم تلفظ به فعلم الملك عليه السلام أنه شغل فكرها فأجابها عنه لتفريغ الفهم بأن {قال كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن العالم الرتبة يكون ما بشرتك به) ولما كان استبعادها لمطلق التكوين من غير سبب أصلاً عبر في تعليل ذلك بالخلق فقال: {الله} أي الملك الأعظم الذي لا اعتراض عليه {يخلق} أي يقدر ويصنع ويخترع {ما يشاء} فعبر بالخلق إشارة إلى أن العجب فيه لا في مطلق الفعل كما في يحيى عليه السلام من جعل الشيخ كالشاب، ثم علل ذلك بما بين سهولته فقال: {اذا قضى أمراً} أي جل أو قل {فإنما يقول له كن فيكون *} بياناً للكلمة، فلما أجابها عما شغل قلبها من العجب فتفرغ الفهم أخذ في إكمال المقال بقوله عطفاً علي {ويكلم الناس} بالياء كما قبله في قراءة نافع وعاصم، وبالنون في قراءة الباقين نظراً إلى العظمة إظهاراً لعظمة العلم: {ويعلمه} أو يكون مستأنفاً فيعطف على ما تقديره: فنخلقه كذلك ونعلمه {الكتاب} أي الكتابة أو جنس الكتاب فيشمل ذلك معرفة الكتاب وحفظه وفهمه وغير ذلك من أمره {والحكمة} أي العلوم الإلهية لتفيده تهذيب الأخلاق فيفيض عليه قول الحق وفعله على أحكم الوجوه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء مما يبرمه. ولما وصفه بالعلوم النظرية والعملية فصار متأهلاً لأسرار الكتب الإلهية قال: {والتوراة} أي التي تعرفينها {والإنجيل *} بإنزاله عليه تالياً لهما، وتأخيره في الذكر الشرط فيقتضي اتصاف كل مقضي بهذه الأوصاف كلها. ولما ذكر الكتاب المنزل عليه حسن ذكر الرسالة فقال بعد ما أفاد عظمتها بجعله ما مضى مقدمات لها: {ورسولاً} عطفاً على «تالياً» المقدر، أو ينصب بتقدير: يجعله {إلى بني إسراءيل} أي بالإنجيل. ولما كان ذكر الرسالة موجباً لتوقع الآية دلالة على صحتها، وكان من شأن الرسول مخاطبة المرسل إليهم وإقباله بجميع رسالته عليهم اتبعه ببيان الرسالة مقروناً بحرف التوقع فقال: {أني} أي ذاكراً أني {قد جئتكم بآية من ربكم} أي الذي طال إحسانه إليكم، ثم أبدل من «آية» {إني أخلق لكم} أي لأجل تربيتكم بصنائع الله {من الطين} قال الحرالي: هو متخمر الماء والتراب حيث يصير متهيئاً لقبول وقع الصورة فيه {كهيئة} وهي كيفية وضع أعضاء الصورة بعضها من بعض التي يدركها ظاهر الحس- انتهى وهي الصورة المتهيئة لما يراد منها {الطير} ثم ذكر احتياجه في إحيائه إلى معالجة بقوله معقباً للتصوير: {فأنفخ} قال الحرالي: من النفخ، وهو إرسال الهواء من منبعثه بقوة انتهى. {فيه} أي في ذلك الذي هو مثل الهيئة {فيكون طيراً} أي طائراً بالفعل- كما في قراءة نافع، وذكر المعالجة لئلا يتوهم أنه خالق حقيقة، ثم أكد ذلك إزالة لجميع الشبه بقوله: {بإذن الله} أي بتمكين الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال، له روح كامل لحمله في الهواء تذكيراً بخلق آدم عليه السلام من تراب، وإشارة إلى أن هذا أعجب من خلق آدمي من أنثى فقط فلا تهلكوا في ذلك. ولما ذكر ما يشبه أمر آدم عليه السلام أتبعه علاج أجساد أولاده بما يردها إلى معتادها بما يعجز أهل زمانه، وكان الغلب عليهم الطب وبدأ بأجزائها فقال: {وأبرئ} قال الحرالي: من الإبراء وهو تمام التخلص من الداء، والداء ما يوهن القوى ويغير الأفعال العامة للطبع والاختيار- انتهى. {الأكمه والأبرص} بإيجاد ما فقد منها من الروح المعنوي؛ والكمه- قال الحرالي- ذهاب البصر في أصل معناه: تلمع الشيء بلمع خلاف ما هو عليه، ومنه براص الأرض- لبقع لا نبت فيها، ومنه البريص في معنى البصيص، فما تلمع من الجلد على غير حاله فهو لذلك برص وقال الحرالي: البرص عبارة عن سور مزاج يحصل بسببه تكرج، أي فساد بلغم يضعف القوة المغيرة عن إحالته إلى لون الجسد- انتهى. ولما فرغ من رد الأرواح إلى جزاء الجسم أتبعه رد الروح الكامل في جميعه المحقق لأمر البعث المصور له بإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة في بعض الآدميين فقال: {وأحي الموتى} أي برد أرواحهم إلى أشباحهم، بعضهم بالفعل وبعضهم بالقوة، لأن الذي أقدرني على البعض قادر على ذلك في الكل، وقد أعطاني قوة ذلك، وهذا كما نقل القضاعي أن الحسن قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بنيّة له في وادي كذا، فمضى معه إلى الوادي وناداها باسمها: يا فلانة! أجيبي بإذن الله سبحانه وتعالى! فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك! فقال لها: إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أردك إليهما، فقالت: لا حاجة لي بهما، وجدت الله خيراً لي منهما» وقد تقدم في البقرة عند {أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260] ما ينفع هنا، وقصة قتادة ابن دعامة في رده صلى الله عليه وسلم عينه بعد أن أصابها سهم فسالت على خده، فصارت أحسن من أختها شهيرة، وقصة أويس القرني رحمه الله تعالى في إبراه الله سبحانه وتعالى له من البرص ببرّه لأمه كذلك. ولما كان ذلك من أمر الإحياء الذي هو من خواص الإلهية وأبطن آيات الملكوتيه ربما أورث لبساً في أمر الإله تبرأ منه ورده إلى من هو له، مزيلاً للبس وموضحاً للأمر فقال مكرراً لما قدمه في مثله معبراً بما يدل على عظمه: {بإذن الله} أي بعلمه وتمكينه، ثم أتبعه ما هو من جنسه في الإخراج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فقال: {وأنبئكم} أي من الأخبار الجليلة من عالم الغيب {بما تأكلون} أي مما لم أشاهده، بل تقطعون بأني كنت غائباً عنه {وما تدخرون} ولما كان مسكن الإنسان أعز البيوت عنده وأخفى لما يريد أن يخفيه قال: {في بيوتكم} قال الحرالي: من الادخار: افتعال من الدخرة، قلب حرفاه الدال لتوسط الدال بين تطرفهما في متقابلي حالهما؛ والدخرة ما اعتنى بالتمسك به عدة لما شأنه أن يحتاج إليه فيه، فما كان لصلاح خاصة الماسك فهو ادخار، وما كانت لتكسب فيما يكون من القوام فهو احتكار- انتهى. ولما ذكرهذه الخوارق نبه على أمرها بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآية لكم} أي أيها المشاهدون على أني عبد الله ومصطفاه، فلا تهلكوا في تكويني من أنثى فقط فتطروني، فإني لم أعمل شيئاً منها إلا ناسباً له إلى الله سبحانه وتعالى وصانعاً فيه ما يؤذن بالحاجة المنافية للإلهية ولو بالدعاء، وأفرد كاف الخطاب أولاً لكون ما عده ظاهراً لكل أحد على انفراده أنه آية لجميع المرسل إليهم، وكذا جمع ثانياً قطعاً لتعنت من قد يقول: إنها لا تدل إلا باجتماع أنظار جميعهم- لو جمع الأول، وإنها ليست آية لكلهم بل لواحد منهم- لو وحد في الثاني، ولما كانت الآيات لا تنفع مع المعاندات قال: {إن كنتم مؤمنين *} أي مذعنين بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يريد، وأهلاً لتصديق ما ينبغي التصديق به. ولما كان ترجمة {إني قد جئتكم} آتياً إليكم بآية كذا، مصدقاً بها لما أتيت به، عطف على الحال المقدر منه تأكيداً لأنه عبد الله قوله: {ومصدقاً لما بين يدي} أي كان قبل إتياني إليكم {من التوراة} أي المنزلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام، لأن القبلية تقتضي العدم الذي هو صفة المخلوق؛ أو يعطف على {بآية} إذا جعلنا الباء للحال، لا للتعدية، أي وجئتكم مصحوباً بآية ومصدقاً. ولما ذكر التوراة أتبعها ما يدل على أنه ليس كمن بينه وبين موسى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في إقرارها كلها على ما هي عليه وتحديد أمرها على ما كان زمن موسى عليه الصلاة والسلام بل هو مع تصديقها ينسخ بعضها فقال: {ولأحل} أي صدقتها لأحثكم على العمل بها ولأحل {لكم بعض الذي حرم عليكم} أي فيها تخفيفاً عليكم {وجئتكم} اية ليس مكرراً لتأكيد: {أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين} على ما توهم، بل المعنى- والله سبحانه وتعالى أعلم- أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أتاهم بهذه الخوارف التي من جملتها إحياء الموتى، وكان من المقرر عندهم- كما ورد في الأحاديث الصحيحة- التحذير من الدجال، وكان من المعلوم من حاله أنه يأتي بخوارق، منها إحياء ميت ويدعى الإلهية، كان من الجائز أن يكون ذلك سبباً لشبهة تعرض لبعض الناس، فختم هذا الدليل على رسالته بما هو البرهان الأعظم على عبوديته، وذلك مطابقته لما دعا إليه الأنبياء والمرسلون كلهم من إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى فقال: وجئتكم {بآية} أي عظيمة خارقة للعادة {من} عند {ربكم} أي المحسن إليكم بعد التفرد بخلقكم، وهي أجل الأمارات وأدلها على صدقي في رسالتي، هو عدم تهمتي بوقوع شبهة في عبوديتي. ولما تقرر بذكر الآية مرة بعد مرة مع ما أفادته من تأسيس التفصيل لأنواع الآيات تأكيد رسالته تلطيفاً لطباعهم الكثيفة، فينقطع منها ما كانت ألفته في الأزمان المتطاولة من العوائد الباطلة سبب عن ذلك ما يصرح بعبوديته أيضاً فقال مبادراً للإشارة إلى أن الأدب مع المحسن آكد والخوف منه أحق وأوجب لئلا يقطع إحسانه ويبدل امتنانه {فاتقوا الله} أي الذي له الأمر كله {وأطيعون *} أي في قبولها فإن التقوى مستلزمة لطاعة الرسول.
|