الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (10- 14): {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}ولما أخبر عن حال من لقيه، أخبر عن حال من فارقه، فقال: {وأصبح} أي عقب الليلة التي حصل فيها فراقه {فؤاد أم موسى} أي قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً، وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً {فارغاً} أي في غاية الذعر لما جلبت عليه من أخلاق البشر، قد ذهب منه كل ما فيه من المعاني المقصودة التي من شأنها أن يربط عليها الجأش؛ ثم وصل بذلك مستأنفاً قوله: {إن} أي إنه {كادت} أي قاربت {لتبدي} أي يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره، مصرحة {به} أي بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها ونحو ذلك بسبب فراغ فؤادها من الأمور المستكنة، وتوزع فكرها في كل واد {لولا أن ربطنا} بعظمتنا {على قلبها} بعد أن رددنا إليه المعاني الصالحة التي أودعناها فيه، فلم تعلن به لأجل ربطنا عليه حتى صار كالجراب الذي ربط فمه حتى لا يخرج شيء مما فيه؛ ثم علل الربط بقوله: {لتكون} أي كوناً هو كالغريزة لها {من المؤمنين} أي المصدقين بما وعد الله به من نجاته ورسالته، الواثقين بذلك.ولما أخبر عن كتمها، أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها، فقال عاطفاً على {وأصبح}: {وقالت} أي أمه {لأخته} أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة، قد خفي عليها أمره: {قصيه} أي اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً، ففعلت {فبصرت به عن جنب} أي بعد من غير مواجهة، ولذلك قال: {وهم لا يشعرون} أي ليس لهم شعور لا بنظرها ولا بأنها أخته، بل هم في صفة الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية.ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقال: {وحرمنا} أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها {عليه المراضع} جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع.ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها: هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ {فقالت} أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن: {هل} لكم حاجة في أني {أدلكم على أهل بيت} ولم يقل: على امرأة، لتوسع دائرة الظن {يكفلونه لكم} أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم، وزادتهم رغبة بقولها: {وهم له ناصحون} أي ثابت نصحهم له، لا يغشونه نوعاً من الغش؛ قال البغوي: والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد فكادت بهذا الكلام تصرح بأن المدلول عليها أمه، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقرباً إلى الملك وتحبباً إليه تعززاً به، فظنوا ذلك، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا هو سبحانه، فلا يصح أن يكون غيره إلهاً، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي.إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي، وأظهرت التزهد فيه نفياً للتهمة، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها، والآية من الاحتباك: ذكر التحريم أولاً دليلاً على الإحلال ثانياً، واستفهام أخته ثانياً دليلاً على استفهامهم لها أولاً، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة، ولذلك سبب عما مضى قوله: {فرددناه} أي مع هذا الظاهر في الكشف لسره الموجب للريبة في أمره، ومع ما تقدم من القرائن التي يكاد يقطع بها بأنه من بني إسرائيل، منها إلقاؤه في البحر على تلك الصفة، ومنها أن المدلول عليها لإرضاعه من بني إسرائيل، ومنها أنه قبل ثديها دون غيرها من القبط وغيرهم، بأيدنا الذي لا يقاويه أيد، ولا يداني ساحته شيء من مكر ولا كيد، من يد العدو الذي ما ذبح طفلاً إلا رجاء الوقوع عليه، والخلاص مما جعل في سابق العلم إليه {إلى أمه} وكان من أمر الله- والله هو غالب على أمره- أنه استخدم لموسى- كما قال الرازي- عدوه في كفالته وهو يقتل العالم لأجله؛ ثم علله بقوله: {كي تقر عينها} أي تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها، آمنة لا تخاف، وقرة العين بردها ونومها خلاف سخنتها وسهرها بإدامة تقليبها، قرت عينه تقر- بالكسر والفتح- قرة، وتضم، وقروراً: بردت سروراً وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وأقر الله عينه وبعينه، وعين قريرة وقارة، وقرتها ما قرت به، وقر بالمكان يقر- بالفتح والكسر- قراراً وقروراً وقراً وتقرة: ثبت واستكن، وأصل قرة العين من القر وهو البرد، أي بردت فصحت ونامت خلاف سخنة عينه، وقيل: من القرار، أي استقرت عيني، وقالوا: دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة، فمعنى أقر الله عينك من الفرح وأسخنها من الحزن، وهذا قول الأصمعي، وقال أبو عباس: ليس كما ذكر الأصمعي بل كل دمع حار، فمعنى أقر الله عينك: صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها، وصادفت ما يرضيك، أي بلغك الله أقصى أملك حتى تقر عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما يديك، قالوا: ومعنى قولهم: هو قرة عيني: هو رضى نفسي، فهي تقر وتسكن بقربه فلا تستشرف إلى غيره {ولا} أي وكيلاً {تحزن} أي بفراقه {ولتعلم} أي علماً هو عين اليقين، كما كانت عالمة به علم اليقين، وعلم شهادة كما كانت عالمة علم الغيب {أن وعد الله} أي الأمر الذي وعدها به الملك الأعظم الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله {حق} أي هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع إياه.ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل، ولم ينتظم له قصد، قال عاطفاً على ما تقديره: فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين: {ولكن أكثرهم} أي أكثر آل فرعون وغيرهم {لا يعلمون} أي لا علم لهم أصلاً، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه.ولما استقر الحال، على هذا المنوال، علم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال، والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال، وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال: {ولما بلغ أشده} أي مجامع قواه وكمالاته {واستوى} أي اعتدل في السن وتم استحكامه بانتهاء الشباب، وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين، فتم بسبب ذلك في الخلال الصالحة التي طبعناه عليها؛ وقال الرازي: قال الجنيد: لما تكامل عقله، وصحت بصيرته، وصلحت نحيرته، وآن أوان خطابه- أنتهى. أي وصار إلى الحد الذي لا يزاد الإنسان بعده غريزة من الغرائز لم تكن فيه أيام الشباب، بل لا يبقى بعد ذلك إلا الوقوف ثم النقصان {آتيناه} أي خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ابتداء غرائز منحناه إياها من غير اكتساب أصلاً {حكماً} أي عملاً محكماً بالعلم {وعلماً} أي مؤيداً بالحكمة، تهيئة لنبوته، وإرهاصاً لرسالته، جزيناه بذلك على ما طبعناه عليه من الإحسان، فضلاً منا ومنه، واختار الله سبحانه هذا السن للإرسال ليكون- كما أشير إليه- من جملة الخوارق، لأنه يكون به ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه {ومن نعمره} أي إلى اكتمال سن الشباب {ننكسه في الخلق} أي نوقفه، فلا يزاد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء، ولا توجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلا عشر سنين، ثم يأخذ في النقصان- هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء، فإنهم في حد الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب، بل غريزة يغرزها الله فيهم حينئذ، ويؤتون من قوة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك، ففي وقت انتكاس غيرهم يكون نموهم، وكذا من ألحقه الله بهم من صالحي أتباعهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس من تمام هذا المعنى ما يفتح الله به لمن تأمله أبواباً من العلم، ولذلك قال الله تعالى عاطفاً على ما تقديره: فعلنا به ذلك وبأمه جزاء لهما على إحسانهما في إخلاصهما فيما يفعلانه اعتماداً على الله وحده من غير أدنى التفات إلى ما سواه: {وكذلك} أي ومثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي كلهم..تفسير الآيات (15- 19): {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}ولما أخبر، بتهيئه لنبوته، أخبر بما هو سبب لهجرته، وكأنها سنت بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: {ودخل المدينة} أي مدينة فرعون آتياً من قصره، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، قال ابن جرير: وهي مدينة منف من مصر، وقال البغوي: وقيل: عين الشمس. وقيل غير ذلك {على حين غفلة} قبل بعيد: وقيل بغير ذلك {من أهلها} أي إحكاماً لما جعلناه سبباً لنقلته منها طهارة من عشرة القوم الظالمين {فوجد فيها} أي المدينة {رجلين يقتتلان} أي يفعلان مقدمات القتل من الملازمة مع الخنق والضرب، وهما إسرائيلي وقبطي، ولذا قال مجيباً لمن كأنه يسأل عنهما وهو ينظر إليهما: {هذا من شيعته} أي من بني إسرائيل قومه {وهذا من عدوه} أي القبط، وكان قد حصل لبني إسرائيل به عز لكونه ربيب الملك، مع أن مرضعته منهم، لا يظنون أن سبب ذلك الرضاع {فاستغاثه} أي طلب منه {الذي من شيعته} أن يغيثه {على الذي من عدوه فوكزه} أي فأجابه {موسى} فركز أي فطعن ودفع بيده العدو أو ضربه بجميع كفه، وكأنه كالكم، أو دفعه بأطراف أصابعه، وهو رجل أيد لم يعط أحد من أهل ذلك الزمان مثل ما أعطي من القوى الذاتية والمعنوية {فقضى} أي فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة، وهو الموت الذي لا ينجو منه بشر {عليه} فقتله وفرغ منه وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة، فلم يشعر به أحد منهم.ولما كان كأنه قيل: إن هذا الأمر عظيم، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً؟ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله: {قال} أي موسى عليه السلام: {هذا} أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي {من عمل الشيطان} أي لأني لم أومر به على الخصوص، ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً؛ ثم أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس والحذر منه فقال: {إنه عدو} ومع كونه عدواً ينبغي الحذر منه فهو {مضل} لا يقود إلى خير أصلاً، ومع ذلك فهو {مبين} أي عداوته وإضلاله في غاية البيان، ما في شيء منهما خفاء.ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأته في قتله إذن خاص، وكان قد أخبر عنه بالندم، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات، فأجيبوا بالإخبار عن مبادرته إلى ذلك بقوله: {قال} وأسقط أداة النداء، على عادة أهل الاصطفاء، فقال: {رب} أي أيها المحسن إليّ.ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه على غير ما دل عليه ظاهرة فقال: {إني ظلمت نفسي} أي بالإقدام على ما لم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً.ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته، قال مسبباً عن ذلك: {فاغفر} أي امح هذه الهفوة عينها وأثرها {لي} أي لأجلي لا تؤاخذني {فغفر} أي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً {له} ثم علل ذلك بقوله مشيراً إلى أن صفة غيره عدم بالنسبة إلى صفته مؤكداً لذلك: {إنه هو} أي وحده {الغفور} أي البالغ في صفة الستر لكل من يريد {الرحيم} أي العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية، ولأجل أن هذه صفته، رده إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجاه منهم قبل الرسالة على غير قياس.ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب بقوله: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بكل جميل. ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضاء العزم عليه قال: {بما أنعمت عليّ} أي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها. ولما كان في سياق التعظيم للنعمة، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال: {فلن أكون ظهيراً} أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً {للمجرمين} أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، أي لا أكون بين ظهراني القبط، فإن فسادهم كثير، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير، لا قدرة لي على ترك نصرتهم، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة، فلا أصلح من المهاجرة لهم، وهذا من قول العرب: جاءنا في ظهرته- بالضم وبالكسر وبالتحريك، وظاهرته، أي عشيرته.ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال: {فأصبح} أي موسى عليه الصلاة والسلام {في المدينة} أي التي قتل القتيل فيها {خائفاً} أي بسبب قتله له {يترقب} أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك، قال البغوي: والترقب: انتظار المكروه. {فإذا} أي ففجئه {الذي استنصره} أي طلب نصرته من شيعته {بالأمس} أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله {يستصرخه} أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره؟ فقيل: {قال له} أي لهذا المستصرخ {موسى}.ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله: {إنك لغوي} أي صاحب ضلال بالغ {مبين} أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً؛ ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه: {فلما} وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال: {أن أراد} أي شاء، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي {أن يبطش} أي موسى عليه الصلاة والسلام {بالذي هو عدو لهما} أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه {قال} أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو، لما أوقعه فيه لا بعدوه: {يا موسى} ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه إليهما غضبان وهو يذمه {أتريد أن تقتلني} أي اليوم وأنا من شيعتك {كما قتلت نفساً بالأمس} أي من شيعة أعدائنا، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق بكون الكلام معه- بما أشير إليه بدخول المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي، وبقوله: {عدو لهما} من ذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام.ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في الإغراء به. مؤكداً بقوله: {إن} أي ما {تريد إلا أن تكون} أي كوناً راسخاً {جباراً} أي قاهراً غالباً؛ قال أبو حيان: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. {في الأرض} أي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد {وما تريد} أي يتجدد لك إرادة {أن تكون} أي بما هو لك كالجبلة {من المصلحين} أي العريقين في الصلاح، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، وكانوا- لما قتل ذلك القبطي- ظنوا في بني إسرائيل، فأغروا فرعون بهم فقال: هل من بينة، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت- كما ذكر ذلك في حديث المفتون الذي رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام.
|