الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (93- 97): {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)}ولما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديداً، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام! وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال: {ومن يقتل مؤمناً} ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفراً، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم {متعمّداً} أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره {فجزاؤه} أي على ذلك {جهنم} أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول {خالداَ فيها} أي ماكثاً إلى ما لا آخر له {وغضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك {عليه ولعنه} أي وأبعده من رحمته {وأعد له عذاباً عظيماً} أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية.ولما تبين بهذا المنع الشديد من قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة الموجبة للتثبت، وكان الأمر قد برز بالقتال والقتل في الجهاد ومؤكداً بأنواع التأكيد، وكان ربما التبس الحال؛ أتبع ذلك التصريح بالأمر بالتثبت جواباً لمن كأنه قال: ماذا نفعل بين أمري الإقدام والإحجام؟ فقال: {يا أيها الذين أمنوا} مشيراً بأداة البعد والتعبير بالماضي الذي هو لأدنى الأسنان إلى أن الراسخين غير محتاجين إلى مزيد التأكيد في التأديب، وما أحسن التفاته إلى قوله تعالى: {وحرض المؤمنين} [النساء: 84] إشارة منه تعالى إلى أنهم يتأثرون من تحريضه صلى الله عليه وسلم وينقادون لأمره، بما دلت عليه كلمة {إذا} في قوله تعالى: {إذا ضربتم} أي سافرتم وسرتم في الأرض {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله، لأجل وجهه خالصاً {فتبينوا} أي اطلبوا بالتأني والتثبت بيان الأمور والثبات في تلبسها والتوقف الشديد عند منالها، وذلك بتميز بعضها من بعض وانكشاف لبسها غاية الانكشاف؛ ولا تقدموا إلا على ما بان لكم {ولا تقولوا} قولاً فضلاً عما هو أعلى منه {لمن ألقى} أي كائناً من كان {إليكم السلام} أي بادر بأن حياكم بتحية افسلام ملقياً قياده {لست مؤمناً} أي بل متعوذ لتقتلوه.ولما كان اتباع الشهوات عند العرب في غاية الذم قال موبخاً منفراً عن مثل هذا في موضع الحال من فاعل {تقولوا} {تبتغون} أي حال كونكم تطلبون طلباً حثيثاً بقتله {عرض الحياة الدنيا} أي بأخذ ما معه من الحطام الفاني والعرض الزائل، أو بإدراك ثأر كان لكم قبله؛ روى البخاري ي التفسير ومسلم في آخر كتابه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام} قال: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم: فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى قوله: {عرض الحياة الدنيا} ورواه الحارث بن أبي أسامة عن سعيد بن جبير وزاد {كذلك كنتم من قبل} تخفون إيمانكم وأنتم مع المشركين، {فمنَّ الله عليكم} وأظهر الإسلام {فتبينوا} ثم علل النهي عن هذه الحالة بقوله: {فعند الله} أي الذي له الجلال والإكرام {مغانم كثيرة} أي يغنيكم بها عما تطلبون من العرض مع طيبها؛ ثم علل النهي من أصله بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الذي قتلتموه بجعلكم إياه بعيداً عن الإسلام {كنتم} وبعّض زمان القتل- كما هو الواقع- بقوله: {من قبل} أي قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام {فمنّ الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليكم} أي بأن ألقى في قلوب المؤمنين قبول ما أظهرتم امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى بذلك، فقوى أمر الإيمان في قلوبكم قليلاً قليلاً حتى صرتم إلى ما أنتم عليه في الرسوخ في الدين والشهرة به والعز، ولو شاء لقسى قلوبكم وسلطهم عليكم فقتلوكم. فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الدين من القبول ما فعل بكم، وهو معنى ما سبب عن الوعظ من قوله تأكيداً لما مضى إعلاماً بفظاعة أمر القتل: {فتبينوا} أي الأمور وتثبتوا فيها حتى تنجلي؛ ثم علل هذا الأمر بقوله مرغباً مرهباً: {إن الله} أي المختص بأنه عالم الغيب والشهادة {كان بما تعملون خبيراً} أي يعلم ما أقدمتم عليه عن تبيين وغيره فاحذروه بحفظ بواطنكم وظواهركم.ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد، والتفتت إلى {وحرض المؤمنين} [النساء: 84] وإلى آية التحية، فاشتد اعتناقها لهما، وعلم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر، فكان ربما فتر عنه؛ بين فضله لمن كأنه قال: فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم، بقوله: {لا يستوي القاعدون} أي عن الجهاد حال كونهم {من المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد.ولما كان من الناس من عذره سبحانه وتعالى برحمته استثناهم، فقال واصفاً للقاعدين أو مستثنياً منهم: {غير أولي الضرر} أي المانع أو العائق عن الجهاد في سبيل الله من عوج أو مرض أو عمى ونحوه، وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين؛ وفي البخاري في التفسير عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليّ فقال: يا رسول الله! والله لو استطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى؛فأنزل الله عز وجل على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سرى عنه فأنزل الله {غير أولي الضرر} وأخرجه في فضائل القرآن عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت {لا يستوي القاعدون} الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع لي زيداً وليجئ باللوح والدواة والكتف؛ ثم قال: اكتب» فذكره وحديث زيد أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية أبي داود: قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرى عنه فقال لي: «اكتب، فكتبت في كتف {لا يستوي القاعدون} إلى آخرها؛ فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلاً أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد! فقرأت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {غير أولي الضرر} الآية كلها، قال زيد: أنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف» ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وفيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل».ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله: {والمجاهدون في سبيل الله} أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته {بأموالهم وأنفسهم} ولما كان نفي المساواة سبباً لترقب كل من الحزبين الأفضليبة، لأن القاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه؛ قال متسأنفاً: {فضل الله} أي الذي له صفات الكمال {المجاهدين} ولما كان المال في أول الأمر ضيقاً قال مقدماً للمال: {بأموالهم وأنفسهم} أي جهاداً كائناً بالفعل {على القاعدين} أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة {درجة} أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها، وفي البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر».ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله: {وكلاً} أي من الصنفين {وعد الله} أي المحيط بالجلال والإكرام أجراً على إيمانهم {الحسنى} بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي يه قوة الجهاد القريبة من الفعل، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هجرته لأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكناً من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، فقال: {وفضل الله} أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه {المجاهدين} أي بالفعل مطلقاً بالنفس أو المال {على القاعدين} أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة {أجراً عظيماً} ثم بينه بقوله: {درجات} وعظمها بقوله: {منه} وهي درجة الهجرة، ودرجة التمكن من الجهاد بعد الهجرة ودرجة مباشرة الجهاد بالفعل.ولما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال: {ومغفرة} أي محواً لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها {ورحمة} أي كرامة ورفعة {وكان الله} أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى {غفوراً رحيماً} أزلاً وأبداً، لم يتجدد له ما لم يكن؛ ثم علل ذلك بأبلغ حث على الهجرة فقال: {إن الذين توفاهم الملائكة} أي تقبض أرواحهم كاملة على ما عندهم من نقص بعض المعاني بما تركوا من ركن الهجرة بما أشارة إليه حذف التاء، وفي الحذف إرشاد إلى أنه إذا ترك من يسعى في جبره بصدقة أو حج ونحوه من أفعال البر جُبر، لأن الأساس الذي تبنى عليه الأعمال الصالحة موجود وهو الإيمان {ظالمي أنفسهم} أي بالقعود عن الجهاد بترك الهجرة والإقامة في بلاد الحرب حيث لا يتمكنون من إقامة شعائر الدين كلها {قالوا} أي الملائكة موبخين لهم {فيم كنتم} أي في أي شيء من الأعمال والأحوال كانت إقامتكم في بلاد الحرب.ولما كان المراد من هذا السؤال التوبيخ لأجل ترك الهجرة {قالوا} معتذرين {كنا مستضعفين في الأرض} أي أرض الكفار، لا نتمكن من إقامة الدين، وكأنهم أطلقوها إشارة إلى أنها عندهم لا تساعها لكثرة الكفار هي الأرض كلها، فكأنه قيل: هل قنع منهم بذك؟ فقيل: لا، لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة، فكأنه قال: فما قيل لهم؟ فقيل: {قالوا} أي الملائكة بياناً لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة إلى موضع يأمنون فيه على دينهم {ألم تكن أرض الله} أي المحيط بكل شيء، الذي له كل شيء {واسعة فتهاجروا} أي بسبب اتساعها كل من يعاديكم في الدين ضاربين {فيها} أي إلى حيث يزول عنكم المانع، فالآية من الاحتباك: ذكر الجهاد أولاً في {وفضل الله المجاهدين} [النساء: 95] دليل عى حذفه ثانياً بعد {ظالمي أنفسهم} [النساء: 97]، وذكر الهجرة ثانياً دليل على حذفها أولاً بالقعود عنها، ولذلك خص الطائفة الأولى بوعد الحسنى.ولما وبخوا على تركهم الهجرة، سبب عنه جزاؤهم فقيل: {فأولئك} أي البعداء من اجتهادهم لأنفسهم {مأواهم جهنم} أي لتركهم الواجب وتكثيرهم سواد الكفار وانبساطهم في وجوه أهل الناس {وساءت مصيراً} روى البخاري في التفسير والفتن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى: {إن الذين توافاهم} [النساء: 97]..تفسير الآيات (98- 101): {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}ولما توعد على ترك الهجرة، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفاً بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهاً على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم، فقال بياناً لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف: {إلا المستضعفين} أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم {من الرجال والنساء والولدان} ثم بين ضعفهم بقوله: {لا يستطيعون حيلة} أي في إيقاع الهجرة {ولا يهتدون سبيلاً} أي إلى ذلك.ولما كانت الهجرة شديدة، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال: {فأولئك} ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء، لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ويفعل ويقول ما يشاء {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذاناً بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال: {عسى الله} أي المرجو والخليق والجدير من الملك المحيط بأوصاف الكمال {أن يعفو عنهم} أي ولو آخذهم لكان له ذلك، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن عسى من الله واجبة، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم {وكان الله} أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلاً وأبداً {عفواً} أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه {غفوراً} أي يزيل أثره أصلاً ورأساً بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلاً، ولعل العفو راجع إلى الرجال، والغفران إلى النساء والولدان.ولما رهب من ترك الهجرة، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به الشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد، فقال تعالى: {ومن يهاجر} أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بهجرته {في سبيل الله} أي الذي لا أعظم من ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع {يجد في الأرض} أي في ذات الطول والعرض {مراغماً} أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له؛ من الرغم وهو الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول: راغمت فلاناً، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك.ولما كان ذلك الموضع وإن كان واحداً فإنه لكبره ذو أجزاء عديدة، وصف بما يقتضي العدد فقال {كثيراً}.ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها؛ أتبعها قوله: {وسعة} أي في الرزق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» أخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: «واغزوا، وهاجروا تفلحوا».ولما كان ربما مات المهاجر قبل وصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فظن أنه لم يدرك الهجرة مع تجشمه لفراق بلده قال: {ومن يخرج من بيته} أي فضلاً عن بلده {مهاجراً إلى الله} أي رضى الملك الذي له الكمال كله {ورسوله} أي ليكون عنده {ثم يدركه الموت} أي بعد خروجه من بيته ولو قبل الفصول من بلده {فقد وقع أجره} أي في هجرته بحسب الوعد فضلاً، لا بحسب الاستحقاق عدلاً {على الله} أي الذي له تمام الإحاطة فلا ينقصه شيء، وكذا كل من نوى خيراً ولم يدركه «لا حسد إلا في اثنتين» فهو موفيه إياه توفية ما يلتزمه الكريم منكم.ولما كان بعضهم ربما قصر به عن البلوغ توانيه في سيره أو عن خروجه من بلده فظن أن هجرته هذه لم تجبُر تقصيره قال: {وكان الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {غفوراً} أي لتقصير إن كان {رحيماً} يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.ولما أوجب السفر للجهاد والهجرة، وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى: {وإذا ضربتم} أي بالسفر {في الأرض} أيّ سفر كان لغير معصية. ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله: {فليس عليكم جناح} أي إثم وميل في {أن تقصروا} ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء مثلاً في صلاة الخوف بقول عمر رضي الله تعالى عنه ليعلى بن أمية- حين قال له: كيف تقصر وقد أمنا-: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا هو حقيقة القصر والذي دلت عليه {من}، وأما الإيماء ونحوه من كيفيات صلاة الخوف فإبدال لا قصر، والسياق كام ترى مشير إلى شدة الاهتمام بشأنها، وأنه لا يسقطها عن المكلف شيء، وقاض بأن المخاطرة بالنفس والمال لا تسقط الجهاد ولا الهجرة إذ الخوف والخطر مبنى أمرهما ومحط قصدهما، فهذا سر قوله: {وإن خفتم أن يفتنكم} أي يخالطم مخالطة مزعجة {الذين كفروا} لا أنه شرط في القصر، كما بينت نفي شرطيته السنة، والحاصل أن هذا الشرط ذكر لهذا المقصد، لا لمخالفة المفهوم للمنطوق بشهادة السنة؛ وقد كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فأتمت بعد الهجرة إشارة إلى أن المدينة دار الإقامة وما قبلها كان محل سفر ونقلة؛ روى الشيخان وأحمد- وهذا لفظه- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر».ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال: {إن الكافرين} أي الراسخين منهم في الكفر {كانوا} أي جبلة وطبعاً. ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: {لكم} دون عليكم {عدواً} ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: {مبيناً} أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره.
|